بات مطلب تصحيح الرواتب والأجور على كلّ شفّة ولسان، حيث لم تعد شرائح واسعة جدًا من الشعب اللبناني قادرة على تأمين الحدّ الأدنى من مُتطلّبات الحياة الأساسيّة. ومن المُتوقّع أن تحتدم المُطالبات برفع الرواتب في القطاعين العام والخاص في المُستقبل القريب، في ظلّ إستفحال الغلاء على مُختلف الصُعد! فهل سنشهد تصحيحًا لها قريبًا؟.
إنّ راتب أيّ مُوظّف أو مُتعاقد ضُمن كادرات الجُمهوريّة اللبنانيّة الرسميّة لم يعد كافيًا لتأمين حياة كريمة… وراتب أيّ عُنصر ينتمي لسلك أمني في الدولة لم يعد كافيًا لشراء المأكل والمشرب… وما ينسحب على القطاع العام ينطبق بصُورة أشدّ سوادًا على القطاع الخاص، من العاملين بأجر يُعادل الحدّ الأدنى للأجور أو يزيد قليلاً عنه، وُصولاً إلى رواتب كانت حتى الماضي القريب تُعتبر جيّدة وكافية لتغطية التكاليف الحياتيّة والمعيشيّة الأساسيّة. والصرخات بدأت تتعالى من النقابات كافة، ومن مُختلف قطاعات العمل، بضرورة تصحيح الرواتب والأجور. ومن المُتوقّع أنّ يزداد هذا المنحى خلال الأسابيع والأشهر القليلة المُقبلة، لأنّ الأسعار إرتفعت بنحو عشرة أضعاف بشكل عام، بالنسبة إلى كثير من السلع والخدمات، بينما الرواتب بقيت هي نفسها أو زادت بنسبة زهيدة مُثيرة للسُخريّة في أغلب الأحوال! وبالتالي، كلّما توسّعت حالات الفقر والعوز، ستتوسّع دائرة المُطالبة بتصحيح الرواتب والأجور.
وقريبًا جدًا سنكون مع إنطلاق العام الدراسي الجديد مع ما يحمله من تحدّيات كُبرى، ليس على الأساتذة والمُعلّمين فحسب، بل على كاهل كل أولياء الطلاب والتلاميذ أيضًا. والمُشكلة أنّ تصحيح أيّ أجر أو راتب في مكان ما دون باقي الرواتب والأجور، سيزيد الأمور تعقيدًا وفشلاً. وعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا قامت المدارس بزيادة رواتب وأجور العاملين بالقطاع التربوي الذين باتت رواتبهم لا تكفيهم لتعبئة خزّانات سيّاراتهم بالوُقود، سيسقط الأهالي بعجز أكبر، وسيتخلّفون أكثر فأكثر عن سداد مُستحقّات الأقساط المدرسيّة والجامعيّة، طالما أنّ رواتبهم لم تُصحّح، وهكذا دواليك بالنسبة إلى مُختلف القطاعات والمهن! لكن غياب الحُلول من قبل المَعنيّين لا يحول دون رفع الصوت عاليًا: فكيف يُمكن القُبول بتقاضي رواتب تقلّ في كثير من الأحيان عن فاتورة إشتراك شهر في المُولّد الكهربائي الخاص؟! وكيف يُمكن تقسيم راتب المليون ليرة أو المليوني ليرة أو حتى الثلاثة ملايين ليرة وأكثر، على تكاليف المأكل والمشرب والمسكن والتنقلات والطبابة والدراسة، إلخ. في ظلّ أرقام قياسيّة للغلاء يُمكن تلمّسها بسُهولة عند زيارة أيّ متجر؟!.
أكثر من ذلك، إنّ إنهيار القيمة الشرائيّة للرواتب بالعملة اللبنانيّة، يُشكّل جزءًا من الأزمة، لأنّ الكثير من الأشخاص صاروا إمّا عاطلين كليًا أو جزئيًا عن العمل، مع تصاعد نسب البطالة بشكل مُخيف. وبسبب تثبيت سعر صرف الدولار الأميركي بشكل غير منطقي لسنوات وعُقود طويلة، ثم ترك الأمور تنهار بشكل مفاجئ ومُتسارع، بات ثمن السلع والمواد التي تُستورد بالعملات الصعبة خارج مُتناول كل اللبنانيّين الذين لا يتقاضون رواتبهم بالدولار، ولا يحصلون على مُساعدات ماليّة دوريّة من عائلاتهم في بلاد الإغتراب. وهذا الأمر ينطبق على مواد وخدمات لا يُمكن الإستغناء عنها، مثل البنزين والمازوت والإشتراك في المُولّد الكهربائي الخاص، إلخ.
وإنطلاقًا ممّا سبق، لا مفرّ من خيار تصحيح الرواتب والأجور، واليوم قبل الغد، لكنّ المُشكلة أنّ القيام بأيّ خُطوة في هذا الإتجاه في ظلّ الظروف الحاليّة، ستزيد الإنهيار وستُسرّع من وتيرته، ولن تحلّ شيئًا، بحسب تأكيدات كل المُحلّلين الإقتصاديّين. فأي زيادة على مُستوى الرواتب، يجب أن تسبقها سلسلة من الخُطوات والوقائع، أبرزها:
أوّلاً: إستعادة أجواء الهدوء وحال الإستقرار على المُستوى السياسي في البلاد، وتحضير الأجواء لإستعادة الدورة الإقتصاديّة الطبيعيّة ولفتح الباب أمام جُملة من الإستثمارات، وهو ما لم يحصل حتى تاريخه، بل العكس هو الصحيح!.
ثانيًا: تشكيل حُكومة مُنسجمة ومُتمكّنة، تملك رؤية إقتصاديّة واضحة، وخُططًا إصلاحيّة مَدروسة وأخرى ماليّة مُتوازنة، على أن تُباشر بتنفيذها خلال وقت قياسي، وهو ما يبدو مُستبعًدا جدًا حتى اللحظة!.
ثالثًا: الإستحصال على غطاء إقليمي ودَولي داعم فعليًا للبنان، لجهة الحُصول على وجه السُرعة على قروض طويلة الأمد، وعلى مُساعدات وهبات ماليّة عاجلة، تُتيح إستمرار مرافق القطاع العام وصُمود الخدمات الرسميّة لأطول فترة مُمكنة. وحتى تاريخه، المُساعدات القليلة التي حاز عليها لبنان، أو التي وُعد بالحُصول عليها قريبًا، مُتواضعة جدًا ولا تكفي على الإطلاق.
رابعًا: العمل بجُهد على الحد من الإستيراد وعلى زيادة الإنتاج الداخلي، بما يُوجد آلاف فرص العمل للبنانيّين، وبما يُحوّل لبنان تدريجًا إلى بلد صناعي، لأنّ الإكتفاء بدور بلد الخدمات السياحيّة لا يكفي وهو عرضة للسُقوط عند أدنى مُشكلة، كما علّمتنا التجارب المُتتالية.
في الخُلاصة، يُمكن القول إنّ تصحيح الرواتب والأجور في ظلّ الواقع القائم حاليًا، من النواحي الإقتصاديّة والماليّة وحتى السياسيّة غير المُستقرّة، هو عبارة عن خُطوة مُتهوّرة ستزيد من تضخّم الأسعار ولن تحلّ أيّ مُشكلة! في المُقابل، إنّ عدم تصحيحها وترك أغلبيّة الشعب اللبناني فريسة الغلاء المُستفحل، من دون البدء بتنفيذ خُطّة إصلاحيّة–إقتصاديّة مَدروسة بعناية بالتنسيق مع الجهات الماليّة الدَوليّة القادرة على مدّ يد العون، هو عبارة عن جريمة بحقّ شعب بأكمله تتجاوز مسألة اللامُبالاة بمصيره وتصل إلى حدّ إذلاله وتجويعه بعد عُقود طويلة من سرقة أمواله وجنى عُمره في المصارف! وبالتالي، إنّ تصحيح الرواتب والأجور مُصيبة… وعدم تصحيحها مُصيبة أكبر! والمُشكلة أنّ الطبقة السياسيّة لا تزال غارقة في خلافاتها، وتنطلق من حسابات سياسيّة وطائفيّة وحزبيّة ضيّقة، بينما الشعب بدأ يعتاد على حياة الذلّ ويتعايش بشكل سلبي وخاضع مع الواقع المُزري الذي وصلنا إليه!.