سجّل سعرُ صرف الدولار في السوق السوداء صباح اليوم الاربعاء, ما بين 19000 و 19100 ليرة لبنانية للدولار الواحد.
مع استمرار “غرق” كل ما هو مدعوم في “بحر” المحتكرين ومنتهزي الفرص، “فاشت” على وجه السوق السوداء فئة جديدة من “أثرياء الدعم”. أفراد ومجموعات يختلفون من حيث الحجم والنفوذ، ويتشابهون في طريقة عملهم التي تشبه “المنشار”. فهم يأكلون ما تبقى من أموال المودعين بـ”الطالع”، وينهشون من جيوب محتاجي السلع عـ”النازل”. وإذا كان فشل الدعم الذريع هو المحفز لهذه الفوضى القاتلة فان السؤال الجوهري يبقى: هل ستنتهي السوق السوداء بعد رفع الدعم كلياً؟
على الرغم من تخفيض الدعم على المحروقات وارتفاع سعر صفيحتي البنزين والمازوت بنسبة 65 و69 في المئة على التوالي، فان المادتين ما زالتا مفقودتين، وتباعان في السوق السوداء بأسعار خيالية. كذلك الأمر بالنسبة إلى الأدوية التي خفض الدعم عليها لتباع على اساس 13650 ليرة للدولار، فهي مفقودة عن رفوف الصيدليات، وموجودة عند “تجار الدواء” بسعر أعلى من سعر السوق الموازية. حتى أن القمح والطحين والخبز لم تُستثنَ من التهريب، ويجري بيعها بأسعار مرتفعة جداً. والسبب لاستمرار توسع السوق السوداء بشكل فظيع، يعود بحسب علم الإقتصاد إلى أمرين: الأول يرتبط بالعلاقة العكسية مع الحرية الإقتصادية، حيث يدفع تقلص الحرية الإقتصادية إلى توسع السوق السوداء، والعكس صحيح. والثاني عدم قدرة الانتاج المحلي والإستيراد الخارجي على تغطية الطلب الداخلي. فيزداد الطلب بشكل كبير عن العرض ويصبح من مصلحة العارضين بيع البضائع خِفية بأسعار عالية جداً، لكل من يكون مستعداً لدفع السعر الأعلى.
الحالتان تنطبقان على الوضع في لبنان. فاستمرار العمل بسعر الصرف الرسمي الوهمي المحدد بـ 1500 ليرة بشكل عام، وعدم رفع الدعم بشكل خاص، يعنيان أن الإقتصاد مقيّد ولا يتمتع بالحرية. فيما يؤدي استمرار الدعم من الجهة الأخرى و”التقطير” في فتح الاعتمادات بالنسبة للمحروقات والدواء إلى ارتفاع الطلب عن العرض بأضعاف مضاعفة. خصوصاً في ظل غياب النقل العام والاعتماد الكبير على النقل الخاص، وتزايد الحاجة بشكل هستيري على المازوت لتأمين الكهرباء من المولدات الخاصة. هذه الحالة الشاذة “سوف تنتهي مع رفع الدعم”، يجزم الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. فـ”السوق السوداء تتغذى من وجود سلع مدعومة. ومع تحرير الأسعار وفتح الإستيراد والبيع بسعر الكلفة، ينتفي مبرر التخزين والبيع بأسعار غير حقيقية من جهة، ويتراجع من الجهة الأخرى الإستهلاك والطلب نتيجة ارتفاع الأسعار. وفي كلتا الحالتين تنعدم مبررات وجود السوق السوداء، فتختفي وتعود الأمور إلى طبيعتها”. وبحسب شمي الدين فان “ما نشهده اليوم من عمليات بيع وشراء في السوق السوداء يعود للتخزين أكثر منه للبيع، ولتحقيق هامش ربح كبير. وعلى الرغم من وجود فئة تتاجر بالأدوية، والمحروقات بشكل خاص، وتبيعها بأسعار مرتفعة جداً لمن يستطيع شراءها من أصحاب الدولارات الطازجة، فان هذ العمليات تبقى محدودة نظراً لانخفاض أعداد من يستطيعون دفع مبالغ كبيرة للحصول على هذه السلع. وبرأيه فان الأغلبية تعمد اليوم إلى تخزين ما أمكنها من هذه السلع تحضيراً لمرحلة رفع الدعم كلياً في نهاية أيلول للاستفادة من فرق السعر. خصوصاً أن أسعار المحروقات ستتضاعف.
يتدرج المستفيدون من السوق السوداء من الشركات المستوردة إلى التجار والموزعين وأصحاب المستودعات وأماكن التخزين… وصولاً إلى بعض سائقي سيارات النقل العمومية، و”قبضاي” الحي، و”أزعر” الشارع الذين “امتهنوا” الدعم. عملية تشبه من حيث الشكل، لا المضمون، شعار “من كل حسب قدرته إلى كل حسب حاجته” للفيلسوف كارل ماركس. فالكل يخزن “حسب قدرته” ويحدد سعر البيع بحسب القدرة المادية للغير، وحاجتهم للسلعة. فبيع صفيحتي بنزين بالنسبة للسائق العمومي بمبلغ مليون و200 ألف ليرة مقابل انتظار 3 إلى 4 ساعات على المحطة، أربح بكثير من حرق الوقود واستهلاك السيارة من أجل 300 أو 400 ألف ليرة في يوم عمل واحد أو حتى أقل. كذلك الأمر بالنسبة إلى العاطل عن العمل الذي يملك سيارة أو دراجة نارية. وكلما ارتقينا صعوداً كلما زادت الكميات المخزّنة. وهذا ما نشهده في المحطات ومستودعات الأدوية، وصولاً إلى الشركات المستوردة. حلقة لن تكسرها الرقابة الضعيفة في بلد المحسوبيات، على الرغم من انها تدفع المواطنين والإقتصاد كلفة باهظة. فقد بلغ متوسط كلفة الوقوف في طوابير البنزين منذ بدء الازمة حوالى 1,100 مليار ليرة، بحسب دراسة للدولية للمعلومات. تضاف إلى الكلفة المادية المباشرة “أكلاف غير محتسبة مثل: كلفة الأمراض والأزمات الصحية الناجمة من الانتظار والتوتر، والتلوث وزحمة السير لساعات التي سببتها الطوابير، والضحايا من قتلى وجرحى الذين سقطوا نتيجة الإشكالات أو الحوادث أمام محطات الوقود أو فقدان الأدوية. وأيضاً الكلفة التي تحملها من اشترى البنزين من السوق السوداء بأسعار تراوحت ما بين 200 و500 ألف ليرة للصفيحة الواحدة قبل ترشيد الدعم، وبين 600 و700 ألف بعد ترشيده”.
الخسائر التي لحقت بالمواطنين نتيجة شراء صفائح البنزين أو المازوت بأسعار السوق السوداء تبدو “نزهة”، أمام خسارة القطاعات الإنتاجية والصناعية من معامل ومصانع ومطاعم ومولدات الكهرباء العمومية. حيث وصل سعر الطن الواحد من المازوت إلى 20 مليون ليرة أو 1000 دولار، فيما سعره في الأسواق العالمية يتراوح بين 540 و580 دولاراً للطن الواحد. هذا الواقع “بدأ يخف تدريجياً مع السماح للقطاع الصناعي بالإستيراد مباشرة بواسطة شركتي Medco و Hodico، بحسب السعر العالمي للمحروقات، أو ما يعرف بالسعر التصديري”، يقول الصناعي بول أي نصر. “إلا أنه حتى مع التخلص من السوق السوداء، فان كلفة انتاج الطاقة على مولدات الديزل بشكل شبه كامل تتراوح ما بين 35 و40 سنت لكل كيلواط ساعة، في حين أن متوسط كلفة انتاج الكهرباء في القطاع الصناعي تتراوح بين 7 و10 سنتات في أكثرية دول العالم. الأمر الذي سيدفع المصانع المحلية إلى رفع أسعار منتجاتها ما بين 10 و40 في المئة أو حتى 50 في المئة، وذلك بحسب استهلاكها للطاقة.
هذا المأزق الصناعي الذي ما زالت تتعامل معه السلطة بخفة قل نظيرها، مدعية أن حل المشكلة يتمثل في نقل كلفة الانتاج إلى المستهلك النهائي، تغيب عنها، بحسب أبي نصر، 3 عوامل أساسية وهي:
– المولدات التي تعمل على الديزل غير مصممة لتوليد الكهرباء 20/24 ساعة – 7 أيام في الاسبوع، إنما هي متوفرة كخطة دعم احتياطي للانقطاعات الطارئة للكهرباء ولفترات محدودة.
– الكلفة الباهظة لانتاج الطاقة تفقد الصناعة الوطنية القدرة التنافسية في الاسواق الخارجية وتحد من التصدير، وبالتالي تؤدي إلى تراجع تدفق العملة الصعبة أو النقد الأجنبي إلى الاقتصاد المحلي.
– عدم وجود طريقة لتصنيع الكهرباء على المولدات تضمن الاستمرارية للقطاع الصناعي.
لذا فان غياب الحل المنطقي لأزمة الكهرباء سيمثل، بحسب أبي نصر، انهياراً كاملاً للاقتصاد.
ليست المشاكل والأزمات التي تصيب البلد هي ما يتأسف عليه الصناعيون إنما غياب الرؤية وانعدام الحلول رغم توفرها. فـ”هناك مشروع تقدمنا به إلى وزارة الصناعة لتمويل تركيب أنظمة على الطاقة الشمسية للمعامل عبر قروض ميسرة”، بحسب أبي نصر. وهناك إمكانية لاستجرار الكهرباء عبر “الربط السداسي” والغاز عبر “الربط الخماسي” وانتاج بين 16 و18 ساعة كهرباء يومياً، بامكان الدولة بيعها بسعرها الحقيقي الذي يبقى أقل بـ 3 مرات من كلفة المولدات… فلماذا لا نشهد تطبيق أي حل من الحلول”.
الحسنة الوحيدة لاستيراد الصناعيين المازوت مباشرة تمثلت في انخفاض سعر طن المازوت في السوق السوداء إلى 530 دولاراً. ولكن في المقابل تبقى سوقاً سوداء تباع فيها المادة بأضعاف السعر المدعوم ويحرم المواطنين من هذه المادة الحيوية، خصوصاً على أبواب فصل الشتاء ويلحق بالمودعين والاقتصاد بشكل عام خسائر فادحة.