تنتج تونس التي تحتكر فيها الدولة صناعة السجائر كميات قليلة مقارنة بحجم الاستهلاك، وقد تسبب ذلك في ظهور اقتصاد موازٍ غير مشروع يجني منه بارونات التبغ أرباحا طائلة.
وفي تقرير نشرته صحيفة “ليبراسيون” (liberation) الفرنسية، يقول الكاتب ماتيو غالتييه إن تونس تعتبر واحدة من آخر دول العالم التي تحتكر صناعة التبغ، انطلاقا من مرحلة التصنيع والاستيراد إلى البيع، ويحصل حوالي 16 ألف بائع تجزئة رسمي على حصة أسبوعية محدودة، لكن هذا الرقم لا يغطي استهلاك التونسيين الذين يدخنون بمعدل 17 سيجارة في اليوم.
وتعرض بعض المتاجر واجهات باللونين الأحمر والأبيض وشعارات العلامات التجارية الرئيسية، مثل العملاقين “فيليب موريس إنترناشونال” (Philip Morris International) و”جابان توباكو إنترناشونال” (Japan Tobacco International) .
ويقول أحمد، الذي يعمل في نقطة بيع مرخصة من الدولة بوسط مدينة تونس، إن “هذا يثبت غياب الدولة”، حيث يتوقف المارة بانتظام عند نقاط البيع غير القانونية لشراء السجائر، بينما يأتي عدد قليل فقط إلى متجره.
ويضيف أحمد “إنه يوم الاثنين، يوم التوريد، غير أن المخازن فارغة”، على الرفوف، يوجد بضعة علب من سجائر المنثول والسجائر غير المحببة والسجائر الأجنبية باهظة الثمن التي لا تتماشى مع القدرات الشرائية لسكان هذه المنطقة الشعبية.
وتباع الحصة الأسبوعية من السجائر المحلية من علامة “20 مارس خفيفة”، المنتج الأكثر طلبا، خلال بضع ساعات، رغم بيعها بسعر أعلى من السعر الذي حددته الدولة.
وقد حددت الدولة سعر هذا النوع بـ 3.9 دنانير للعلبة، بهامش ربح لا يتجاوز 6% لتجار التجزئة، وفي العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، باعت البقالات هذا النوع من السجائر المحلية بـ 5.7 دنانير، مما يُظهر بوضوح ازدهار السوق غير الرسمية جراء نقص الكميات المعروضة، حسب الصحيفة. (الدولار يعادل 2.8 دينار)
إدارة فاسدة
يقدر معدل الاستهلاك السنوي في تونس بمليار علبة سجائر، وتنتج الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد ومصنع التبغ بالقيروان 500 مليون علبة، ويتم استيراد 200 مليون علبة، في حين يؤمن التهريب -الذي زاد بوضوح منذ اندلاع الثورة التونسية وبلغ حجمه حاليا حوالي مليار دينار وفقا لتقرير صادر عن مركز جسور للدراسات- الكمية المتبقية من السجائر.
وتقول آمنة زغواني كريشان، وهي نقابية في الاتحاد العام التونسي للشغل، وعضو في مجلس إدارة الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد، إنه لمدة 10 سنوات، لم تكن هناك رؤية صناعية وتجارية واضحة من جانب الدولة بسبب تعاقب الحكومات في فترة وجيزة، ويستغرق الأمر في بعض الأحيان عامين للحصول على إذن لتغيير قطع الآلات المستوردة من أوروبا، ومع هبوط سعر الدينار، تُكبد السجائر المستوردة الدولة أموالا طائلة، لأنها لم تنقل هذه الزيادة إلى أسعار البيع.
وتضيف كريشان “تفسر هذه العوامل انخفاض الإنتاج والعجز التراكمي للوكالة الوطنية للتبغ والوقيد، ومع ذلك، ما زلنا شركة ديناميكية، ففي العام الماضي ورغم فيروس كورونا تمكن وكلاؤنا من تحسين الإنتاج”.
ويطالب العديد من الخبراء ورجال الأعمال بخصخصة القطاع من أجل حل مشكلة الإنتاج من جهة، والتصدي للسوق غير المشروعة من جهة أخرى.
ويؤكد حسام سعد، عضو جمعية “أليرت” (Alert) لمكافحة الاقتصاد الريعي في تونس، أن الإدارة الكارثية لوكالة التبغ هي سبب تفشي التجارة غير المشروعة، ويضيف أن السجائر المحلية التي يمكن العثور عليها في المتاجر لا تأتي من التهريب الذي تسيطر عليه المافيات، ولقد وُجدت هناك بسبب تفشي الفساد بين مسؤولي الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد، الذين يسمحون بالتهريب، أو حتى يشاركون فيه.
نتيجة هذه الممارسات، تتداول الصحافة الوطنية بانتظام أنباء عن اعتقال موظفين من الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد، ويقول عمر، وهو تقني سابق في الوكالة “لا يتم احتساب الحزم التالفة المتأتية من خط الإنتاج، والتي يتم وضعها في آلة التقطيع التي تفصل ورقة التبغ لإعادة استخدامها. توضع هذه العبوات جانبا ليتم بيعها في وقت لاحق”.
بارونات التبغ
تقول كريشان معبرة عن استنكارها من ضعف الموارد التي تعتمدها الدولة لمعالجة مشكل السوق الموازية “لا يمكنني أن أنكر تفشي الفساد في هذا القطاع التجاري، كما هو الحال في كل مكان في العالم، لكن الأمر لا يكاد يذكر مقارنة بالإنتاج الإجمالي. معظم حركة تدوير السلع لا تتم داخل الشركة، وإنما في الخارج بمجرد أن نوزع منتجاتنا على الموزعين الرسميين”.
وتضيف “تهدف هذه الاتهامات لإجبارنا على الخصخصة، لكن سيكون من الضروري توحيد الجهود بين الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد ومصنع التبغ بالقيروان من أجل السيطرة بشكل أفضل على الإنتاج”.
بالنسبة لفوزي، صاحب نقطة البيع التي يعمل بها وسط العاصمة، فإن السياسيين هم الجناة الحقيقيون، ويقول “لكي تصبح بائع سجائر، أنت بحاجة إلى إذن من الوالي، والرخصة -على حد ادعائهم- تُمنح للتونسيين المحتاجين، خاصة المعوقين والأرامل، لكن ذلك مجرد هراء”.
ويضطر التجار أسبوعيا إلى زيارة مركز توزيع الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد للحصول على حصتهم، وهو عمل روتيني مرهق، لذلك قام الكثير منهم بخرق النظام و”تأجير” الرخصة لأشخاص آخرين.
ويوضح فوزي قائلا “إن هذه المافيا تدير عشرات التراخيص، هم الذين يقومون بعد ذلك بإعادة بيع المخزون إلى الشركات المحلية، ولا يبقى لنا غير الفتات”.
ومن بين الخيارات أمام المدخنين، أسواق البضائع المهربة، وهي أقل تكلفة من بقية أنواع السجائر، حيث تنتشر في الأسواق والشوارع مقابل 2.5 دينار، ويوجد منها أصناف شتى ومن علامات تجارية مختلفة من جميع الدول.
وحسب الجمارك التونسية، فإن البضائع المهربة تأتي بشكل أساسي من ليبيا، ويخضع التهريب -وفقا للصحيفة- لسيطرة بارونات محليين لا يمكن المساس بهم لأن هذه التجارة توفر دخلا للكثير من الأسر الفقيرة التي تعيش على الحدود، وهي منطقة أهملتها الدولة منذ استقلال البلاد، ويعتمد معظم الناس فيها على الاقتصاد غير الرسمي لكسب عيشهم.
وقد صرح ضابط جمارك في تقرير نشرته منظمة “إيناكت أفريكا” (Enact Africa) عام 2019 عن تجارة السجائر غير المشروعة في تونس، “أن هذه السوق غير الرسمية شر لا بد منه في المناطق الحدودية”.
(الجزيرة)
المصدر: أ.ف.ب – الجزيرة