صال وجال طويلًا اقتراح “الكابيتال كونترول” الشهير بين لجنتي المال والموازنة والإدارة والعدل، قبل أن يحطّ في الهيئة العامة، وهكذا استفاق مجلس النواب على القانون متأخرًا سنتين فقط. ما الجدوى من إقراره اليوم بعدما حُوّلت مبالغ كبيرة بالعملات الأجنبية خارج البلاد؟ وبعدما مارست المصارف منذ تشرين 2019 ما يحلو لها من إجراءات، حجزت بموجبها ودائع الناس من دون أيّ سند قانوني؟
الكابيتال كونترول Capital Control هو عبارة عن ضوابط مالية تتخذها الدولة لفترات موقتة، وتضع بموجبها قيودًا على السحوبات النقدية من المصارف، وعلى تحويلات رؤوس الأموال من وإلى هذه الدولة. عمليًّا طبّقت المصارف هذه الضوابط منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين، ولكن باستنسابية فاقعة، أفقدتها ثقة المودعين، بحيث سمحت لمودع أن يسحب ويحوّل ما شاء خارج البلاد، ورفضت أن يسحب مودع آخر إلّا بالقطارة بضع مئات من الدولارات في بداية الأزمة. المعيار الوحيد الذي استخدمته المصارف استند إلى قوة ونفوذ المودع، قبل أن يجف الدولار ويُستبدل بلولار وبهيركات وصل إلى 80%. من هنا كانت أهمية إقرار القانون في بداية الأزمة، بما يضع حدًّا لاستنسابية المصارف من جهة، ويمنع خروج الأموال بالعملات الأجنبية من البلد من جهة ثانية، خصوصًا أنّ الإقتصاد اللبناني حر، والقوانين تجيز حرية نقل رؤوس الأموال.
بعد فوات الأوان
“الكابيتال كونترول يأتي متأخرًا جدًا وبعد فوات الأوان” يقول الخبير الإقتصادي أنطوان سعادة، بحيث لم يعد مفيدًا للإقتصاد، وهو موجود فعليًا بحكم الأمر الواقع، إذ لا يمكن للمودع أن يحوّل من وديعته إلى الخارج، إلا لمن لديهم حظوة معينة عند أصحاب المصارف. بنظر سعادة القانون لن يفيد المودع بشيء، إلّا في حال حرّر سقوف السحب المفروضة من قبل المصارف.
لو أُقرّ هذا القانون في بداية الأزمة هل كان وضع حدّا للنزف المالي؟
يجيب سعادة “أمران لو حصلا في تشرين 2019، لكانا أحدثا فرقًا إيجابيًا، الأول لو لم تقفل المصارف أبوابها في بداية الأزمة، ثانيًا لو صدر قانون الكابيتال كونترول في الليلة نفسها وخلال نصف ساعة. لكن ما حصل أنّ المصارف أوقفت إعطاء الدولارات للمودعين، الأمر الذي خلق هلعًا في صفوف المودعين وأفقدهم عامل الثقة. لكن ما الجدوى من كلمة “لو”، نحن اليوم في أسوأ وضع، لا يمكن معه تصحيح الأجور أو زيادة بدلات النقل بظل الإرتفاع الأسبوعي في أسعار المحروقات.
في معرض الحديث عن قانون كان يجب أن يُقر قبل سنتين، ليوقف تهريب الأموال وينظّم علاقة المصارف مع المودعين، استذكرت “الدولية للمعلومات” حادثة تاريخية أدت إلى إقرار الكابيتال كونترول في لبنان قبل 54 عامًا. سرد تاريخي من شأنه أن يُظهر الفرق الذي تحدثه الإدارة الجيدة للأزمة في التخفيف من التداعيات السلبية، أو في تضخيمها وتسريع عجلات الإنهيار في ظلّ إدارة سيئة. ما الذي حصل عند الساعة الثامنة و 45 دقيقة من صباح يوم الاثنين في 5 حزيران 1967؟
في حينه “أغارت الطائرات الإسرائيلية على المطارات المصرية ودمّرت الطائرات الحربية، واستكملتها بغارات على دول عربية أخرى، ما أدّى إلى اندلاع حرب بين الدول العربية وأسرائيل ، عٌرفت بحرب الأيام الستّة. باكراً استشعر الخطر المسؤولون اللبنانيون، وفي مقدمهم رئيس الجمهورية حينها شارل الحلو ورئيس الحكومة رشيد كرامي ورئيس مجلس النواب صبري حمادة والوزراء والنواب كافة، فعقد مجلس الوزراء جلسة طارئة عند الساعة الحادية عشرة من اليوم ذاته، وتم إقرار مشروع القانون المكرر وإحالته بالمرسوم الرقم 7510 بطلب صلاحيات تشريعية في المجال المالي والاقتصادي لمواجهة المرحلة وتداعياتها. لم يتأخر مجلس النواب في ملاقاة الحكومة وعقد عند الساعة الرابعة والنصف جلسة برئاسة الرئيس صبري حمادة وأقر عند الخامسة أي في أقل من نصف ساعة طلب الحكومة وصدر القانون الرقم 45/67 تاريخ 5 حزيران 1967، ‘بإعطاء الحكومة حق التشريع لمدة شهرين، بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء في القضايا الاقتصادية والمالية والقضايا المتعلقة بالسلامة العامة والأمن الداخلي والأمن العام.. وبعد 3 أيام أي في 8 حزيران 1967 اجتمع مجلس الوزراء وأصدر المرسوم الاشتراعي رقم 1 ‘تنظيم علاقات المصارف مع زبائنها لغاية 29 حزيران 1967.
ومما جاء في المرسوم الاشتراعي المذكور:
يحق لكل صاحب حساب دائن بالليرة اللبنانية أو بأي عملة أخرى أن يسحب مبالغ نقدية لا يتجاوز مجموعها في المصرف الواحد الألف ليرة لبنانية خلال الفترة من 5 حزيران ولغاية 29 منه.
يحق لكل صاحب حساب دائن تجاري أن يستعمل رصيد حسابه لحاجات مهنته العادية دون سواها وذلك بمختلف وسائل الدفع المألوفة باستثناء الأوراق النقدية.
يجوز للمصارف أن تدفع نقداً لأرباب العمل من حساباتهم التجارية أجور المستخدمين والعمال لديها الذين تستحق رواتبهم قبل 29 حزيران وذلك على أساس جداول مفصلة وعلى مسؤوليتهم وعلى أن لا يتجاوز المبلغ المدفوع للمستخدم أو العامل 500 ليرة“.
وهكذا تمكّنت السلطة في حينه وبسرعة قياسية، من تنفيذ اجراءات جنّبت البلد حتمية خروج الودائع وانهيار الليرة، وألزمت المصارف بالتعامل بمعيار موحّد مع العملاء. ما أعقل الأمس قياسًا باليوم!
المصدر: لبنان 24 – نوال الأشقر