كتبت ريتا بولس شهوان في “نداء الوطن”:
الفرد متروك لمصيره. الأمر ليس بجديد بعدما تخلّت الدولة بسياساتها عن القطاعين الخاص والعام على حد سواء. فلا مصالح الاقتصاد الخاص محمية ولا يوجد ارشاد للقطاع العام.
هكذا يلجأ المواطن اللبناني الى مشاريع خاصة او ناشئة تستند الى اقتصاد السوق لرفع قدرته الشرائية مع الغلاء الفاحش، فيمكن ان تلتقي في كسروان، التي اخذناها نموذجاً، رجلاً يعمل في اكثر من 4 وظائف ليتحول الى “سوبرمان” المنطقة. فادي (يسوع الملك)، موظف براتب متواضع، يعمل في متجر كبير في المنطقة كمدير مسؤول عن مستودع. يُنهي دوامه ليتحول بعد الساعة الرابعة الى “كهربجي” خبير، وان كان لدى الزبون عطل في الحاسوب فيمكنه ايضا ان يعالجه. هذا الرجل، العصامي، الذي يقبل براتب مليون ونصف مليون ليرة، مع كل الاعمال الاخرى لا يصل الى الثلاثة ملايين، فان تعذرت عليه مشكلة الكهرباء، يتكل على مردود العمل الآخر وهو “رش” المنازل والمؤسسات بالمواد المطهرة في ظل انتشار كورونا.
تحوّل العمل بدوامات متعددة في اليوم الواحد للفرد الواحد الى مسألة طبيعية في المنطقة، للنساء كما للرجال، إن كان يملك شهادة جامعية او لا يملك، ومدرسة اللغة الانكليزية ياسمين دفوني (عينطورة) من هذه النوعية التي لم تتوقف عند هذه المهنة اذ هي تدرب اليوم السيدات على ريادة الاعمال في برنامج في السفارة الاميركية وانشأت عملها الخاص من الصفر من دون اي رأسمال وهو عبارة عن غذاء نباتي مئة في المئة، استوحته من زوجها الطباخ الماهر. تخبر كيف انها منذ البداية دخلت في كل التفاصيل من خلال البحث عن الاطباق التي اخترعت نصف مكوناتها ومن حواضر المنزل وهي مؤلفة من الفاصولياء، الحمص، وانواع اخرى من الحبوب، اي أن رأسمالها صفر. تدخّلها في كل شاردة وواردة حملها على ان توصل منتوجها الى المنازل. لهذه الدرجة تفانت بعملها حتى حولته الى مؤسسة تعمل على تسجيل ماركتها التجارية وتضم فريق عمل صغيراً يشمل زوجها واصدقاء لها باسم “ب – زيت لتتمكن من تسويقها في السوبرماركات، بعد ان بدأت بيعها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. كل ذلك أسسته وهي تجتهد في عملها في التدريب والتدريس. ارتفاع سعر الطعام شكل فرصة بالنسبة اليها لتباشر منذ سنتين وتعتبر ان انتشارها في الاسواق سببه المنافسة بين سعر منتجاتها وسعر اللحمة لان القدرة الشرائية اقل ومنتوجها بديل عن البروتايين.
البحث عن بديل عن الرواتب المنخفضة او رديف له كان انطلاقة تانيا شبابي ابو سليمان (كسروان)، وهي معلمة مدرسة، تصمم وتصنع جزادين وحمالات للهواتف كذلك الأمر في منزلها. بدأت الفكرة مع ابنتها التي تحترف الرسم وفي وقت فراغها ترسم على قبعات صنعتها من ملابس في المنزل تم تغيير وجهة استخدامها اي برأسمال صفر مستهدفة الفئة التي تملك نفس القدرة الشرائية التي لديها. تطورت المسألة مع تمادي الازمة الاقتصادية وأصبح عمل تانيا اليدوي يشمل الخياطة مع زوجها فتجمع من المتاجر مخزون الجينز وتعيد استخدامه في خياطة وتصميم الجزادين التي تطرز عليها شقيقتها العاطلة عن العمل منذ عامين. تسمي هذا العمل اليدوي بـ”سندة” ويساهم في اكمال الشهر مع بعض المردود المالي باعتبار ان الدخل من الراتب محدود.
هكذا اصبحت المواهب الفردية والابداع مصدراً للرزق او حلًا للتخفيف عن رب العائلة الذي هو في مؤسسة العائلة اللبنانية نمطياً الرجل. تسعى الأم بولا (غدير) التي تعمل في محل لبيع الهواتف الخليوية التي انخفضت نسبة مبيعها مماأثر على عائلتها ومستوى حياتها، الى “إنشاء” مؤسسة مع ابنتها لو كانت افتراضية اي عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتشجيع ابنتها على انشاء عملها الخاص الذي تديره بدورها الا وهو تركيب عقود وأساور وتوزيعها على محال كسروان التجارية. هذه الفكرة التي تتكل على الابداع وتديرها الام، تدر ارباحاً على الابنة التي تخبر الوالدة كيف انها تدفع من تعبها مصروف الدروس الخصوصية ومصروفها الشخصي مما اكسبها طموحاً واعتماداً على النفس علما ان تكلفة الانتاج مرتبطة بالدولار. وقد عرضت حتى الساعة عبر انستغرام اكثر من مئة وخمسين نموذجاً.
ليس الجميع محظوظاً أن يكون له عمل أصلا ليكون له عمل ثانٍ حتى لو كان يملك اختصاصاً متميزا ومجتهداً جامعياً مثل تونيا (ادونيس) التي حاولت ان تجد عملاً في مجالها المحصور بوظائف ومحسوبيات معدودة. تونيا التي هي في صدد كتابة رسالة الماستر في الدراسات الدولية والدبلوماسية فشلت في ايجاد فرصة عمل ولا تعتبر انشاءها عملها الخاص من المنزل عبر محل الكتروني عبر “انستغرام” لبيع علب تجمع فيها عطوراً وما يخص النظافة الجسدية من صناعة لبنانية تشتريها من ثلاثين مصنعاً لبنانياً بالليرة اللبنانية ضرباً من الطموح مؤكدة بأن “المتاجر الالكترونية رائجة في يومنا هذا” فعلى الرغم من ضخامة اختصاصها تعتبر ما تفعله بانه مسلّياً ويكسبها خبرة في الاعلام الجديد والتواصل مع الناس، فدربت نفسها بنفسها، فهي لا تتحمل فكرة ان تبقى بلا عمل والحياة خبرة على حد تعبيرها ولا يقتصر الامر على محدودية التخصص والاطار الجامعي سائلة: من يعمل في تخصصه؟ بدأت تونيا برأسمال صغير صرفته على التسويق الالكتروني عبر انستغرام وبذلك اكتسبت استقلاليتها المادية.
تعدد المهن اليوم لا الاختصاصات سببه وفق الخبير الاقتصادي علي حدادة أن المواطن اللبناني يعيش براتب ثابت لم يتغير مع تغير الاسعار فاصبح يبحث عن مدخول يزيد من القدرة الشرائية، لذا هو مضطر لان ينوّع اقتصاده الفردي في الوقت نفسه. كما الاستعانة بزوجته ومدخولها او احد افراد العائلة لتأمين لقمة العيش ومصروف المنزل لان العائلة في لبنان اذا كانت مكونة من ثلاثة افراد على حد وصفه فهي بحاجة الى مصروف بنزين وكهرباء ومولد كهرباء الى اكثر من 10 ملايين ليرة ليعيش، وذلك من دون المتطلبات الاخرى المرتبطة بالمدارس والجامعات. هكذا يكون التفسير للجوء الى مبادرات شخصية وذاتية التي لا تحتاج الى رأسمال على حد تعبيره، وهو نتيجة اسباب عدة منها الغلاء. وللتعويض يركن الى أعمال فردية لا تحتاج الى سلع متعددة كزراعة الحدائق، فتح محال لتصليح ادوات كهربائية لتوفير شراء الادوات الكهربائية، العمل كنجار. وكما هناك سبب آخر بنظره الا وهو الازمة المصرفية التي قلصت الاعمال للاحجام الفردية والمطلوبة وهي مرتبطة بالحاجات الاساسية.
هكذا تم تصغير دائرة الاعمال اكثر فأكثر مع تقلص القطاعات الكبرى في لبنان، في ظل غياب الوعي الاقتصادي للدولة مع ارتفاع حاجة الفرد الذي “يجود من الموجود” الانسان في لبنان يستهلك كل طاقته حيث يمكن ان يصل دوام عمله الى اكثر من 16 ساعة. فهل تملك الدولة رفاهية تأمين الطبابة لهؤلاء ان ارهقوا او اصيبوا بالشيخوخة المبكرة؟ او هل لدى وزارة الشؤون الاجتماعية العدد الكافي لرصد حالات للبرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً في حين ان البطاقة التمويلية “تغص” بتفعيلها؟
المصدر: نداء الوطن – ريتا بولس شهوان