منذ العام 1994، تمّ تثبيت تعرفة مؤسسة كهرباء لبنان عند شطور تبدأ من 138 ليرة للكيلووات ساعة، يوم كان ثمن برميل النفط يقارب عشرين دولاراً. ومنذ ذلك الوقت، ارتفعت أسعار النفط عالمياً على مراحل، وصولاً إلى مستويات تتجاوز 80 دولاراً للبرميل اليوم، أي نحو أربع مرّات ثمن البرميل سنة 1994، من دون أن يتمّ تبديل هذه التعرفة على الرغم من ارتفاع كلفة المحروقات المستخدمة في المعامل. ومع حصول الانهيار المالي وتدهور قيمة الليرة، انخفضت قيمة التعرفة بالدولار النقدي إلى ما دون سنت واحد، بعدما كانت تتجاوز تسعة سنتات سابقاً. وهكذا تحوّلت تعرفة مؤسسة كهرباء لبنان إلى إشكاليّة داهمة لا يمكن التغاضي عنها في أيّ خطّة لقطاع الكهرباء.
ومع هذا كلّه، تمسّكت الدولة اللبنانيّة طوال السنوات الماضية بمبدأ عدم فرض أيّ تصحيح في تسعيرة الكهرباء العامّة، قبل أن يتمّ التخلّص من التقنين وتوفير الكهرباء على مدار الساعة. وعلى هذا الأساس، يمكن للمواطن أن يزيد من قيمة مدفوعاته لمؤسسة كهرباء لبنان، بالتوازي مع الوفر الذي يمكن أن يحقّقه من عدم وجود فاتورة اشتراك في المولّدات الخاصّة. وهذا المبدأ هو ما دفع الحكومات المتعاقبة إلى طرح خطط بناء المعامل وزيادة الإنتاج بشكل متدرّج، قبل الدخول في مسألة زيادة التعرفة، على الرغم من جميع العراقيل التي أخّرت خطط زيادة الإنتاج.
اليوم، يبدو أنّ ثمّة تحوّلاً جذريّاً في مقاربة الدولة اللبنانيّة للملفّ، من خلال الحديث عن زيادة التعرفة بالتوازي مع “زيادة الإنتاج”، وفقاً لتصريحات وزير الطاقة نفسه، بدل انتظار التخلّص من التقنين قبل زيادة التعرفة. مع الإشارة إلى أنّ زيادة الإنتاج كما تخطّط لها وزارة الطاقة لن تؤدّي إلى توفير الكهرباء أكثر من 10 ساعات في اليوم الواحد، وهو ما يعني أنّ المواطن سيكون أمام فاتورتين باهظتين: فاتورة اشتراك المولّد وفاتورة مؤسسة كهرباء لبنان.
البحث عن سبب هذا التحوّل في موقف الدولة اللبنانيّة يقودنا إلى المباحثات التي تجريها وزارة الطاقة والمياه اليوم مع البنك الدولي لإعطاء القرض المطلوب لتمويل مشروع الغاز المصري. فمنذ البداية، دفع البنك الدولي باتجاه تحقيق مجموعة إجراءات “تصحيحيّة” في القطاع قبل الموافقة على إعطاء القرض المطلوب، للتأكّد من قدرة مؤسسة كهرباء لبنان على سداد هذا الالتزام لاحقاً. ومن هذه الشروط، زيادة تعرفة الكهرباء من 138 ليرة للكيلووات كما هو الحال اليوم، إلى 2000 ليرة للكيلووات، مع الإبقاء على سياسة الشطور المعتمدة حالياً، أي زيادة التعرفة بالتوازي مع زيادة استهلاك المشترِك للكهرباء. وبهذه الطريقة، سيكون من شأن هذا الإجراء رفع تعرفة مؤسسة الكهرباء على المواطن بنحو 13 مرّة.
تؤكّد مصادر وزارة الطاقة لـ”أساس” أنّ القرار النهائي بخصوص هذه الزيادة لم يُتّخذ بعد، لكن يُتوقّع أن تبتّ الدولة اللبنانيّة هذه المسألة قبل مطلع العام المقبل، بالتوازي مع إنجاز التفاهم مع البنك الدولي لتمويل مشروع الغاز المصري. وفي مقابل إصرار البنك على التصحيح السريع في التعرفة الحاليّة، التي تقلّ بنسبة كبيرة عن كلفة الإنتاج، تحاول الوزارة التوصّل إلى صيغة يمكن بموجبها رفع التعرفة تدريجياً على مدى الأشهر القادمة، وصولاً إلى 10 أضعاف التعرفة الحاليّة التي يدفعها المشترك. ولهذا السبب، من الأكيد أنّ الأشهر المقبلة ستحمل ارتفاعاً سريعاً في قيمة فواتير الكهرباء، فيما يبقى السؤال عن تدرّج هذه الزيادة وقيمتها.
بالتوازي مع هذا الشرط، قدّم البنك الدولي مجموعة شروط يجب أن تقوم بها وزارة الطاقة خلال الأشهر المقبلة، بالتزامن مع الاستفادة من قرض البنك:
أولاً: التعامل مع الهدر غير الفنّيّ، الناتج عن التعدّيات على الشبكة الكهربائيّة في الكثير من المناطق، والذي يستنزف وفقاً لدراسات عدّة أكثر من 21% من الإنتاج الكهربائي للمؤسسة. وهذه الخطوة، بحسب مصادر الوزارة، ستحتاج إلى غطاء سياسي من جميع الأطراف للتمكّن من التعامل مع هذه التعدّيات بأقلّ قدر ممكن من التعقيدات.
ثانياً: التعامل مع الهدر الفنّيّ، الناتج عن تقادم المعدّات وشبكات النقل والتوزيع، والذي يستنزف بدوره 16.5% من الإنتاج الكهربائي في الشبكة. مع الإشارة إلى أنّ التعامل مع هذا الجانب من الأزمة يستلزم نفقات بالعملة الصعبة، لإعادة تأهيل وصيانة بعض أجزاء شبكة الكهرباء.
ثالثاً: وضع خطّة للتعامل مع الفواتير غير المحصّلة، التي ارتفعت نسبتها بشكل كبير خلال المرحلة الماضية نتيجة تباطؤ الجباية في العديد من المناطق، وخصوصاً في الفترة التي شهدت أزمة المحروقات. ولهذه الغاية، من المرتقب أن تعدّ الوزارة خططاً لجدولة المستحقّات السابقة، بالتوازي مع تطبيق التسعيرة الجديدة على الفواتير المقبلة.
وبهذه الشروط، يراهن البنك الدولي على وضع إطار “إصلاحي” لقطاع الكهرباء، يمكِّن الدولة من إعادة الانتظام إليه، ثمّ استقطاب الاستثمارات المطلوبة من القطاع الخاص لزيادة إنتاج الكهرباء المحلّيّ وفق صيغ الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص. وهذه الصيغ يمكن أن تأخذ شكل المعامل التي تتمّ إقامتها على مبدأ الـ BOT، التي تقوم من خلاله شركات خاصّة بإنشاء المعامل وبيع الكهرباء للدولة على مدى فترات زمنيّة معيّنة، قبل تسليمه للدولة في المستقبل.
كلّ هذه التصوّرات ستعيقها بعض العوامل التي قد تطرأ خلال المرحلة المقبلة. فاستمرار الانخفاض في سعر صرف الليرة اللبنانيّة على المدى المتوسّط، قد يُخفض مجدّداً قيمة التعرفة الجديدة التي يرغب البنك الدولي بفرضها على مؤسسة كهرباء لبنان، إذا ما تمّ احتسابها بالدولار النقدي. ولمّا كانت الغالبيّة الساحقة من مصاريف المؤسسة هي بالدولار، سيكون من شأن هذا التطوّر أن يعيد الأمور إلى نقطة الصفر، من خلال الإبقاء على العجز في الميزانيات على المدى الطويل، وعدم تمكين القطاع من تحقيق ربح يسمح باستقطاب الاستثمارات التي يراهن عليها البنك. أمّا الأزمة الفعليّة فستكمن في قدرة المواطنين الشرائيّة، التي قد لا تتحمّل الزيادة المقبلة في تعرفة الكهرباء، بعدما ارتفعت بشكل سريع كلفة اشتراكات المولّدات الخاصّة.
ch23