كتب محمد وهبة في” الأخبار”:
ما حصل قبل بضعة أيام حين قفز سعر الدولار في السوق إلى 26 ألف ليرة خلال يومين فقط، يشبه كثيراً ما حصل يوم اعتذار سعد الحريري عن عدم تشكيل الحكومة في تموز الماضي، عندما قفز الدولار من 19 ألف ليرة إلى 23 ألفاً خلال ساعات. ففي المفاصل السياسية، يتحوّل سعر الصرف إلى أداة لتبرير اللجوء إلى الشارع بشكل مدروس ومخطّط له. هذا ما حصل أمس. فبعد تصريحات سلامة، ارتفع سعر الدولار من دون أن يترك أي مجال للتفسير ومن دون أن يخرج من أذهان الناس الخوف من العنف الآتي ومن الموت جوعاً. فجأة، ثمة من قرّر قطع الطرقات بشكل منهجي ومدروس.
مع ارتفاع سعر الدولار إلى 26 ألف ليرة نهاية الأسبوع الماضي، تحفّزت ذاكرة الناس بأن الدولار ضمن مسار تصاعدي وأنه قد يبلغ 30 ألفاً وربما أكثر. لا مجال للشكّ في هذا الأمر. الشبهات تشير إلى أن الأمر لم يتعلق بالصراع الذي لم يحُسم بعد على تحديد الخسائر وتوزيعها، بالتوازي مع صراع سياسي يتشابك فيه المحلّي بالدولي والإقليمي. الواضح في هذا الصراع هو الجزء المحلّي. إذ لا يمكن إغفال تصريحات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لـ«رويترز» في 23 تشرين الثاني الماضي، قبل يومين من قفزة الدولار. فهو أشار إلى أنه ألغى سياسة الدعم تدريجياً، وإنه «ليس هناك اتفاق على كيفية توزيع الخسائر»، لافتاً إلى أن «الحكومة لم تقدّم لصندوق النقد الدولي حتى الآن تقديرات لحجم خسائر النظام المالي».
بعد يومين، وبعد تناقل روايات ذات صدقية عن تدخّل مصرف لبنان في السوق الحرّة شارياً للدولارات وطالباً شراء كميات كبيرة في وقت قصير، بدأ الدولار يسجّل ارتفاعات متتالية وسريعة انتهت ببلوغه 26 ألف ليرة في 26 الجاري. أصابع الاتهام وجّهت تلقائياً إلى الحاكم «المعجزة» الذي كان يمسك بلجام الليرة طوال عقدين ونصف عقد، إذ تبيّن أنه كان يراكم الخسائر طوال هذا الوقت إلى أن انفجر سعر الصرف وقفز خلال سنتين من 1507.5 ليرات وسطياً إلى 26000 ليرة، بنسبة زيادة تبلغ 1625%.
عندها ردّ سلامة ببيان تحوّل إلى أضحوكة المتابعين؛ فقد تبرأ من مسؤوليته وقدرته على الإمساك بسعر الصرف، وألقى اللوم على «التطبيقات المشبوهة وغير القانونية». وأشار إلى أن «سعر صرف العملة المحلية في السوق الموازية غير واقعي ولا يعبر عن القيمة الحقيقية لليرة»، واعتبر أن الأسعار الواقعية هي تلك «المعلنة يومياً بناءً على التداول الجاري في السوق والمسجّل على منصة صيرفة».
طبعاً لا يخجل سلامة من القول إن للتطبيقات تأثيراً على سعر الصرف أكبر من تأثير مصرف لبنان الذي يفترض أنه اللاعب الأكبر والأساسي في السوق. كما لا يتوانى عن الاستمرار في إخفاء الحقائق. فأي حساب بسيط لما نستورده في ظل رفع الدعم وتحرير الأسعار الداخلية للسلع المدعومة، يظهر أن حجم التداول على منصّة «صيرفة» الذي بلغ حدّاً أقصى قيمته 9 ملايين دولار (بيعاً وشراء) لا يعبّر عن أكثر من ثلث الطلب الفعلي في السوق، بينما السوق الحرّة تعبّر عن ثلثي الطلب الفعلي التجاري، إلى جانب المضاربات والعمليات التي تتم في السوق بهدف التخزين الفردي.
أثبتت الوقائع أن رياض سلامة يرأس مديرية للعمليات النقدية سبق أن اشترت وباعت الدولارات
لكن المشكلة لا تقتصر على ذلك، بل في أن سلامة يعدّ لاعباً سياسياً وأحد أركان قوى السلطة: أعطته شرعية سياسية، وأعطاها غطاء للنهب. التبادل بينهما قائم على أنه قادر على لعب دور لترويج فكرة، أو التحريض ضدّها. وهو اليوم أكثر قدرة على التحريض . فقد تسرّبت رواية ذات صدقية تشير إلى ما سبق للحاكم القيام به يوم اعتذار الحريري: شراء الدولارات من السوق الحرّة. المصادر تشير إلى أن الأمر يتكرّر الآن، وإن بشكل مختلف. فمصرف لبنان يشتري الدولارات على مراحل، وهو يحدّد توقيت المرحلة ضمن حاجات يراها مناسبة، وضمن أهداف يرسمها هو. وقد أثبتت الوقائع أنه يرأس مديرية للعمليات النقدية سبق أن اشترت وباعت الدولارات في السوق في بداية الأزمة. كذلك تؤكد المعطيات أنه يواصل القيام بهذا الأمر عبر مجموعة من كبار الصرافين الذي يجنون الكثير من اللعب في السوق على وتيرة المعلومات التي يتزوّدون بها منه، وبواسطة مجموعات «واتس آب» و«تطبيقات» يلومها سلامة على ارتفاع سعر الدولار. لا يجب إغفال فكرة أن حجم التبادل مهم في السوق المحلية، أي أن تأثير كميات قليلة على هوامش تقلبات سعر الصرف، يكون كبيراً. فعندما تعرض جهة ما طلباً لشراء 100 ألف دولار، ينتشر الطلب على مجموعات الواتس آب ويترك انطباعاً بأن الطلب كبير على الدولار، فيرتفع السعر. التوقعات تتحقق تلقائياً.
على أي حال، ما الهدف الذي يسعى إليه سلامة من التلاعب بسعر الصرف؟ في الخارج، لسلامة ملف قضائي فيه الكثير من الاتهامات والشبهات. أما في الداخل، فهو يتحدّث باسم طرفين: الأميركيين وقوى السلطة المحليّة. لم يكن الحاكم يوماً صانع سياسات نقدية، بل كان وسيطاً وبقي كذلك. بصفته وسيطاً مالياً كان ينقل الأموال من جهة إلى جهة. هذا ما فعله عندما اجتذب أموال المصارف من الخارج وأودعها في «محرقته» وفي قنوات التوزيع الزبائنية. المصارف الجشعة، اجتذبت بدورها ودائع الزبائن لتحقيق المزيد من الأرباح. هكذا بدّد سلامة والمصارف أموال الناس. وبصفته وسيطاً سياسياً ما زال ينقل رسائل قوى السلطة إلى الشارع أو أي مكان آخر. هذا ما يفعله الآن. فهو حفّز ارتفاع سعر الدولار لتبرير استخدام الشارع. إنما السؤال المطروح، هل يفعل ذلك باسم الأميركيين أم باسم الحلقة المالية السياسية في الداخل؟ موجب السؤال أنه طالما يواصل سلامة لعب الدور المطلوب منه يبقى حاجة للداخل والخارج، ولا تعود هناك حاجة للبحث عن مرشحين محتملين بينما هو يقدّم الخدمة التي قد لا يستطيع غيره أن يقدّمها للخارج والداخل. رسالة سلامة أنه سيبقى في الميزان، وأنه لن يقفز منه مهما ارتفع سعر الدولار، ومهما تضرّر الناس، ومهما ازداد التضخّم، ومهما حصل.