اضطرب سعر صرف الدولار في لبنان، فاهتزت سوق العقارات بعد فورة كبيرة شهدها هذا القطاع خلال العقدين الأخيرين في البلاد، في ظل إقبال المغتربين اللبنانيين، على شراء “شقق المستقبل” على أمل العودة يوماً ما. ولكن مع الانهيار الاقتصادي، بدأ هذا القطاع يعيش حالة من الركود، وتراجع الأسعار، على الرغم من النشاط الظرفي الذي حصل بسبب محاولة المودعين تهريب ادخاراتهم وودائعهم المصرفية على شكل شيكات محسومة القيمة، في مقابل قيام شريحة “يائسة” ببيع عقاراتها وممتلكاتها من أجل الهجرة الدائمة بسبب التوقعات المستقبلية السلبية.
العقار ملاذ آمن؟
تاريخياً، ينظر المواطن اللبناني إلى العقار بمثابة الملاذ الآمن له ولعائلته، والضمانة لمستقبلهم. لكن الواقع يشي بأن تملك العقارات في لبنان، لم يكن متاحاً يوماً لكل اللبنانيين وتحديداً في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية وإعادة الإعمار. إذ حافظت العقارات على أسعارها المرتفعة، وكانت من نصيب المغتربين والمتمولين، فيما كان على متوسطي ومحدودي الدخل الانتظار، إما للحصول على قرض من مصرف الإسكان أو الاقتراض من المصارف الخاصة بفوائد مرتفعة. فيما غابت الدولة عن سياسة دعم الحق في السكن، واقتصرت على بعض مشاريع المساكن الشعبية التي آلت حالها إلى الفوضى.
سوق العقارات إلى الركود
حالياً، يشهد القطاع العقاري في لبنان حالة من الركود. وتضمن تقرير صادر عن “بنك عودة” اللبناني، تشخيصاً لحالة البلاد، التي شهدت تراجعاً في المبيع خلال عام 2021 بعدما شهد ارتفاعاً ملحوظاً في عام 2020 بلغت نسبته 110 في المئة، إذ شكلت العقارات مع بدء الأزمة ملاذاً آمناً. غير أن حركة بيع العقارات تراجعت نتيجة تراجع تداول الشيكات كوسيلة للدفع، وبعدما بدأ معظم البائعين يطالبون بالسداد إما بالدولار النقدي أو عبر حسابات خارج لبنان.
ويشكو تجار العقارات من عدم القدرة على إتمام مشاريعهم، ويؤكد وئام زود، مالك شركة بناء وبيع عقارات، أن “القطاع شهد طفرة في عامي 2019 و2020 بسبب احتجاز الودائع في المصارف، حيث تسابق المودعون لسحب ودائعهم من البنوك وشراء العقارات. كما سدد تجار العقارات والمالكون ديونهم للبنوك بموجب شيكات مصرفية للخروج من أزماتهم وإعسارهم”، لذلك ازدادت المبيعات بشكل شاسع، وانعكس ذلك على عمليات التسجيل في السجلات العقارية بحسب زود الذي تطرق إلى “تراجع وهمي للأسعار لأن كلفة البناء ما زالت ثابتة نسبياً”، بسبب قيام عائلات ببيع ممتلكاتها بأي ثمن من أجل الهجرة، كما “استفاد المديون للمصارف من انهيار الليرة ليسدد ما عليه على سعر الصرف 1500 ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد، ما يوفر خسائر عدة على المدينين للمصارف”.
وأشار زود إلى أن “النزول الوهمي للأسعار بسبب الشقق المعروضة للبيع بداعي هجرة أصحابها” انعكس سلباً على قطاع البناء وسمعته والخطط المستقبلية، حيث يأتي الزبون ويقول، إن هناك من اشترى بأقل من نصف السعر المتعارف عليه. لذلك توقف التجار عن إتمام عمليات البناء وفق الرخص الممنوحة سابقاً”. وأبدى تخوفه من “أزمة اجتماعية في المستقبل لأن الناس ستصل إلى مرحلة لن تجد فيها شققاً للإيجار أو للشراء، وهذا سينعكس ضرراً على الجميع، وقد نشهد ارتفاعات كبيرة”.
ويؤكد هذا الكلام تقرير “بنك عودة”، الذي أشار إلى أن البائعين المدينين، سواء كانوا مطورين عقاريين أو مالكين، والذين اعتادوا قبض الشيكات المصرفية خلال عام 2020 لتغطية قروضهم المصرفية، بدأوا يطالبون بالسداد بالدولار النقدي، أو يفرضون أسعاراً عالية جداً بالدولار المحلي (المقدرة قيمته بـ3900 ليرة لبنانية في المصارف)، الأمر الذي انعكس سلباً على حركة الطلب في السوق العقارية خلال العام الحالي. كما انعكس على العرض، حيث أدى إلى تأجيل بعض المشاريع وإلغاء أخرى، مشيراً إلى تراجع أسعار العقارات بالدولار النقدي بشكل لافت.
الكلفة تراجعت
من جهة أخرى، يتحدث السيد وئام زود عن “حفاظ تكلفة البناء على مستواها، فيما تراجعت أسعار الشقق بنسبة 35 في المئة تقريباً”. ويعتقد زود أن هناك “نزولاً حقيقياً” لأسعار الشقق في مقابل “النزول الوهمي”، منطلقاً من إجمالي التكاليف للبناء، فالمتر الواحد من الأرض تتحكم في كلفته 3 عناصر، أولاً سعر الأرض الذي يختلف بين المناطق، وثانياً تكاليف مواد البناء، وصولاً إلى العنصر الثالث وهو تحديد هامش ربح التاجر.
وتراجعت أسعار الأراضي وأسهمت في انخفاض نسبي لأسعار الشقق، في مقابل ارتفاع ثمن مواد البناء كالبلاط، والسيراميك، والخشب، والألمنيوم، والزجاج، وكذلك كلفة النقل البحري والدولي التي تسعر بالدولار. كما ارتفعت كلفة المواد الأولية عالمياً، بينما تراجعت كلفة اليد العاملة، فأحدث ذلك توازناً بين إجمالي التكاليف. وأسهم الضغط في السوق على “قبول التجار بأرباح أقل من السابق”.
النقدي أولاً
في السابق، اعتمد التجار استراتيجيات مختلفة لبيع شققهم، ولكن مع تراجع الثقة بطرق السداد المصرفية على غرار الشيك أو التقسيط بالسندات المؤجلة، انتقل التجار إلى اشتراط الدفع نقداً.
وتدفع المطالبة بالسعر نقداً إلى حصر إمكانية الشراء وتملك الشقق بالطبقة الميسورة، وحرمان الطبقة الوسطى والشباب من إمكانية تأسيس عائلة وتحقيق الاستقلالية.
هذا الأمر لا ينفيه زود، مالك شركة بناء وبيع عقارات، إذ أشار إلى صعوبة وجود شقق للشراء أو الإيجار، “ذلك أن ارتفاع البدلات مسألة بديهية من أجل تغطية بدلات الصيانة بعد مغادرة المستأجر، والتي يتم تحديدها بالدولار النقدي لشراء القطع المستوردة”، والتي يقدرها بألف دولار تقريباً أي نحو 25 مليون ليرة لبنانية حالياً. وعليه، فإن الإبقاء على الأجور منخفضة سيؤدي إلى معادلة “المستأجر يسكن في البيت مجاناً في ظل الاتجاه إلى الدولرة وغياب الدولة عن تحمل المسؤولية، لأن مالك الشقة يريد تأمين معيشته وتغطية مصاريفه العائلية”.
عقود الإيجار
ولمس الوسطاء العقاريون تراجعاً كبيراً في القطاع العقاري، وتؤكد الناشطة في مجال العقار السيدة زينة الأيي أن “عمليات البيع تراجعت، وتقتصر على المغتربين الحائزين على الدولار، فيما يعجز اللبناني عن ذلك”. وينسحب هذا التراجع في عمليات البيع على أسعار الشقق السكنية فـ”البيت الذي كانت قيمته 100 ألف دولار، يتم بيعه بـ40 ألف دولار، لذلك من يمتلك دولار كاش يستفيد من انهيار الأسعار”.
وتؤكد السيدة زينة “نحن نعيش العصر الذهبي لعقود الإيجار”، معطية مثالاً على ذلك، “من عقد إيجاراً منذ سنتين بقيمة 600 ألف ليرة بالشهر، يتجه حالياً إلى تجديد العقد لقاء 3 ملايين ليرة شهرياً”، وبالتالي أدى ذلك إلى ارتفاع بدلات الإيجار وبات صعباً العثور على منزل للإيجار.
أزمة الإيجارات القديمة على حالها
يسهم الانهيار المالي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان في أزمة تصعب مداواتها على مستوى عقود الإيجارات القديمة، في ظل التجديد التلقائي للعقود من جهة، وطول مدة وتعقيد الإجراءات القضائية. وتثير هذه العقود إشكاليات كبيرة، فهي إن كانت معقودة بالليرة اللبنانية، تكون أصبحت عديمة القيمة وزهيدة للغاية، فإذا ما أخذنا على سبيل المثال شقة مؤجرة بـ300 ألف ليرة لبنانية في حي شعبي، كان هذا المبلغ يساوي 200 دولار للمؤجر، ويؤمن له السترة كما يقول أحد المؤجرين. أما اليوم، فأصبح الإيجار الشهري 12 دولاراً وفق سعر صرف السوق، لا تكفي لشراء علبة دواء.
وتنقلب آية المعاناة عندما تكون قيمة العقود محددة بالدولار، إذ تضاعفت قيمة العقود 16 ضعفاً في حال المطالبة بها على سعر صرف الدولار في السوق مقابل العملة الوطنية. وبين هذا وذاك، تستمر السجالات حول كيفية احتساب الدولار في ظل تعدد أسعار الصرف من 3900 ليرة لبنانية للدولار، عند السحب من الودائع في البنوك، أو 20500 وفق منصة “صيرفة” التابعة للمصرف المركزي و24700 ليرة للدولار الواحد في حال اعتماد سعر السوق الآخذ في الارتفاع في ظل زيادة الطلب.
المصدر اندبندنت عربية – بشير مصطفى