ظلَّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يصرّ على أن “الليرة بخير. ولا داعي للهلع”، إلى أن نَطَقَ جوهرته الكلامية قائلاً “لا أحد يعرف”، وذلك على وقع انفلات السوق السوداء. على أنّ الحاكم كان يجب إتْباع جوهرته بعبارة “إلاّ أنا”. فوحده العارف بكل شيء، إلا أن كانت قراراته محض ارتجالية من دون الاستناد إلى دراسات علمية، أو ربما هي خضوع لإملاءات سياسية. فهل فعلاً لا يعرف الحاكم انعكاسات رفع سعر الدولار المصرفي من 3900 ليرة إلى 8000 ليرة، على دولار السوق السوداء وأسعار السلع؟.
دراسات لا جدوى منها
أكثر من سعر للدولار ينتشر بين جمهورية المصارف وجمهورية الصرافين وجمهورية التجّار. أما البرج العاجي الذي يسكنه سلامة المفترض أنه مؤتمن على استقرار العملة، فبعيد عن تلك الجمهوريات ظاهرياً، ومتّصل بها بدهاليز خلفية تفضي إحداها إلى هيكل الزعامات السياسية. وأمام تلك التعقيدات تسقط الدراسات العلمية التي استند إليها سلامة لتحديد سعر الدولار المصرفي وامتناعه عن رفع قيمته من 3900 ليرة إلى 8000 ليرة.
مطلع الشهر الجاري، حَسَمَ سلامة موقفه خلال مقابلة إعلامية، واتّكأ على دراسة بيَّنَت أن نتائج رفع سعر الدولار المصرفي “ستخلق سيولة إضافية سترفع سعر الدولار في السوق”. وحسب الحاكم “لا يمكن حصر مفاعيل القرار بالودائع فقط”. وبالنسبة إليه، إن أظهرت الدراسة جدوى رفع السعر، لما تأخّر في رفعه.
وفعلاً لم يتأخّر الحاكم في رفعه، لكن من دون تبيان سبب تغيير رأيه، إلا أنه بصورة غير مباشرة، أكّد بأن دراساته لا جدوى منها. وفي المحصّلة، بات بإمكان المودع سحب 3000 دولار شهرياً وفق سعر 8000 ليرة، بدل 5000 دولار بسعر 3900 ليرة.
تجميل قبيح
يرتبط سعر دولار السوق السوداء بعلاقة وطيدة مع دولار المصارف، فما إن يرتفع الأخير، حتى تقفز أسعار السوق، وهو ما يؤكّده الخبير الاقتصادي لويس حبيقة في حديث لـ”المدن”
يفصل حبيقة بين ما صرّح به سلامة في مقابلته وبين قراره. فعلمياً “كلام سلامة صحيح، ورفع سعر الدولار المصرفي لن يفيد المودعين”. أما لماذا اتخذ الحاكم قراراً معاكساً للعِلم، فلا جواب شافياً لدى حبيقة، لأن “مشكلتنا حالياً ليست بين ليرة ودولار، وإنما المشكلة سياسية واقتصادية وفساد”.
يرجّح حبيقة أن يكون قرار سلامة متماشياً مع الرغبة السياسية في تجميل الصورة قبل موسم الأعياد. وبالتالي “السماح للمودعين بالاستفادة من بعض الزيادات لشراء الحاجيات، خاصة وأن أسعار السوق لن ترتفع فجأة. ما يزيد من القدرة الشرائية للمودعين”، فأسعار السلع ما زالت تدور في فلك سعر صرف السوق السوداء، أي بنحو 25 ألف ليرة، وما قد يشتريه المودع في حال سحب مبلغاً مالياً على سعر 3900 ليرة، سيتضاعف فيما لو سحب المبلغ نفسه على سعر 8000 ليرة.
ماذا بعد هذا التجميل؟ لا يتأخّر حبيقة في توقّع ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء إلى 40 ألف ليرة بعد الأعياد، أي مع بداية العام المقبل “إلاّ إذا حصلت متغيّرات إيجابية في لبنان، على صعيد السياسة والاتفاق مع صندوق النقد، وهذا أمر غير واضح”.
المودعون غير معنيين
لم يُفرِح القرار صغار المودعين كما اعتقد الحاكم ومَن سوَّقَ للقرار سياسياً. فرابطة المودعين تطمح لـ”حلٍّ شامل يضمن التوزيع العادل للخسائر، مع ضمان النهوض الاقتصادي وتوحيد أسعار الصرف. وأي قرار خارج هذا الإطار، لا يعوَّل عليه”، على حد تعبير المستشار الإقتصادي لرابطة المودعين، محمد فاعور، الذي يؤكد في حديث لـ”المدن”، أن المودعين “غير معنيين بسعر الصرف الذي سيسحبون أموالهم وفقه، لأن السحوبات في ظل تعدد أسعار الصرف هي “هيركات” مقنّع. كما أن تعدد تلك الأسعار له تبعات تضخمية تُناقض مبدأ التوزيع العادل للخسائر الذي من شأنه حماية الطبقة الاجتماعية الهشة”. وعليه، فإن قرار سلامة “لا يعيد حقوق المودعين”.
الحاكم يحمل المسؤولية
لم تستسغ المصارف قرار الحاكم، لكنها لم تقدّم اعتراضها، انطلاقاً من أن سلامة “يحمل مسؤولية تأمين الدولارات للمصارف بسعر 8000 ليرة”. وفق ما تقوله مصادر مصرفية لـ”المدن”.
وعلى عكس التوقعات، لا تعطي المصادر هامشاً كبيراً للربط بين رفع سعر الدولار المصرفي وارتفاع دولار السوق، إذ أن “حجم الكتلة النقدية التي ستخرج من المصارف إلى السوق ضئيلة. فقرار الحاكم يعطي الحق للمودع بسحب 3000 دولار شهرياً بدل 5000 دولار، أي أن المودع سيسحب 24 مليون ليرة بدل 19 مليون و500 ألف ليرة، أي زاد السحب بمعدّل 4 مليون و500 ألف ليرة”. وفي حال حصول تأثير بفعل القرار “فسيكون تأثيراً جزئياً. فيما التأثير الأكبر سياسي، لأن الخوف اليوم يدور حول استمرار البلد أو حصول انتخابات أو عدمها، أو الاتفاق مع صندوق النقد أو عدمه.. وكلها أسئلة ومخاوف تحرك سعر السوق وليس الدولار المصرفي”. ولا تستبعد المصارف اتخاذ الحاكم قراره تحت الضغط السياسي.
قد يكون لقرار سلامة انعكاسات نفسية شبه إيجابية، لناحية أن المودع يخسر أمواله بسعر 3900 ليرة، وقد يعوّض بعضاً من حقوقه برفع قيمة الدولار المصرفي. إلا ان انعدام الخلفية العلمية للقرار وعدم ربطه بسياسة إصلاحية، تذهب بالودائع إلى التبخّر تحت حرارة سعر صرف السوق، مهما ارتفع الدولار المصرفي.
حسان خضر – المدن