ثقة بارزة في النفس تبديها السلطة في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدوليّ. إعتدادٌ بالقرارات والإمكانات، يطرحان أكثر من علامة إستفهام عن مكامن قوّتهما. فالمسؤولون، وإن اتفقوا هذه المرة على رقم موحد للخسائر وكيفية توزيعها، فهم عاجزون عن فرض إصلاح جوهري واحد لتطبيق ما يتفق عليه، والدخول في ما بعد في برنامج جدّي مع صندوق النقد.
للمرة الأولى منذ تشكيلها في 10 أيلول الفائت يخرج من الحكومة رقم لحجم الخسائر يمكن أن يعتمد عليه كطرح رسمي، ليس باعتباره الرقم المنطقي أو الصحيح، إنما لصدوره عن نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، رأس حربة المفاوضات مع” الصندوق”، والخبير السابق فيه. فقد أكد الشامي في حديث تلفزيوني أن الرقم المحدد للخسائر يتراوح بين 68 و69 مليار دولار. وأن التوزيع لن يراعي كل المودعين بل سيحمي الصغار منهم، ويحمل نسبة أعلى لمن استفاد من الفوائد العالية سابقاً.
الرقم يفضح “مسرحية” لجنة التقصي
ملاحظتان سريعتان في الشكل يمكن إعطاؤهما عند قراءة الرقم بحسب مصادر مطلعة: الأولى، أنه أقل بـ14 مليار دولار عن الرقم الذي قدمته لازارد في الخطة السابقة والذي كان بحدود 83 مليار دولار. والثانية، أنه رقم كبير وضعه في المبدأ، أو أقله وافق عليه، جزء أساسي من فريق تقصي الحقائق النيابية المشارك في إعداد الخطة، والذي عمد بنفسه إلى نسف الخطة السابقة من خلال تخفيض حجم الخسائر من 241 ألف مليار ليرة إلى 81 ألف مليار ليرة. وعليه فان رقم 69 مليار دولار للخسائر هو إثبات غير قابل للتشكيك بان لجنة تقصي الحقائق كانت مسرحية لا طعم لها. ومع هذا، فان تحليل “رقم الشامي”، يفترض الأخذ بعين الاعتبار 3 متغيرات رئيسية مع الخطة السابقة، وهي:
1- تغيُّر الرقم الاجمالي في ضوء السعر المعتمد والذي كان بحسب الخطة السابقة 2900 ليرة للدولار الواحد. وعليه فان الفرق بقيمة 14 مليار دولار بين الخطتين ليس بالضرورة أن يكون ناتجاً عن تقدير مختلف للخسائر. وهذا ما لا يمكن التأكد منه إلا بعد الاطلاع على تفاصيل الخطة الجديدة، وكيفية تحميلها للخسائر على ديون الليرة والدولار، ومعرفة سعر الصرف المعتمد.
2- تحديد كيفية تعامل الخطة الجديدة مع أصل المشكلة، والتي كانت سبب الخلاف بين الشركة الاستشارية لازارد من جهة، ولجنة تقصي الحقائق النيابية من الجهة الثانية، وهي:
– حجم القروض المتعثرة في القطاع الخاص. حيث كانت مقدرة في الخطة السابقة من قبل اللجنة بين 16 و18 مليار دولار في حين قدرتها اللجنة وقتذاك برقم متدنٍ جداً بحدود 8 مليارات دولار. وذلك على الرغم من أن لجنة الرقابة على المصارف كانت تقديراتها بحدود 12 مليار دولار. وهذا الرقم من الطبيعي أن يكون قد انخفض خلال العامين المنصرمين نتيجة تسديد الديون، وأخذ المصارف مؤونات كافية على القروض المتعثرة.
– الفجوة في مصرف لبنان المقدرة بـ 73 ألف مليار ليرة وهذا الرقم من المفروض أن يكون قد ارتفع ولم ينخفض.
– مصير الديون بالليرة، ونسبة الاقتطاع منها. للتذكير، نصت الخطة السابقة على اقتطاع 40 في المئة من سندات الدين بالليرة و75 في المئة من الديون بالعملة الأجنبية (يوروبوندز). في حين رفضت لجنة تقصي الحقائق اقتطاع أي نسبة من الديون بالليرة، على اعتبار أن التضخم تكفل تلقائياً بالعملية، واقترحت تخفيض الاقتطاع على سندات الدولار إلى 60 في المئة.
3- تغير الرقم النهائي بحسب الفرضية المعتمدة، وهذا لا يعني أن الخطة السابقة كانت مقدرة الخسائر بشكل خاطئ وقد جرى تصحيحها، إنما تتعلق بمقدار الشطب المعتمد على ديون الليرة والدولار وخسائر مصرف لبنان.
الرقم منطقي، ولكن!
إنطلاقاً من الرقم الذي أعلنه الشامي للخسائر (69 مليار دولار) تستنتج المصادر أن “المعنيين بوضع الخطة اقتنعوا باستحالة التحايل على صندوق النقد، وأنهم مضطرون لتقديم أرقام لا تستخف، أقله، بعقول من يقرأها. لكن الرقم المقدم غير كاف لبناء التحليل. ذلك أنه من المهم معرفة قيمة الخسائر المقدرة بالليرة وعلى أي سعر صرف احتسبت. ولنضع جانباً الحقائق التي لن تظهر إلا باعلان الخطة رسمياً فان الترجيحات تذهب بنا إلى استنتاجين رئيسيين:
الأول، ان الخطة أعفت الديون بالليرة اللبنانية من الاقتطاع (الخطة السابقة قضت باقتطاع 40 في المئة).
الثانية، أن المصارف استطاعت خلال الفترة الماضية تكوين مؤونات على القروض المتعثرة. مستفيدة من فرق الفائدة واستبدال الديون بالودائع. فالمصارف لم تعد تدفع فوائد على الودائع بل تأخذ عمولات، وبالمقابل فهي ما زالت تتقاضى نفس معدلات الفائدة على التسليفات من مصرف لبنان والحكومة والزبائن، كما أنها لا توزع أنصبة الربح. وعليه استفادت من هذه الفوارق لتكوين مؤونات على قروض القطاع الخاص.
وإذا أخذنا هذين المعطيين في الحسبان، نستنتج أن رقم 69 مليار دولار هو رقم كبير للخسائر، وقد يكون قريباً من رقم 83 مليار دولار الذي قدرته لازارد في الخطة السابقة.
الوصول إلى “الصندوق” ما زال بعيداً
لكن، هل يعني هذا المعطى المستجد استئناف المفاوضات بشكل جدي مع صندوق النقد، والدخول عما قريب في برنامج معه؟
تجيب المصادر أن “التذاكي” بالطريقة اللبنانية لمعالجة الأمور على صندوق النقد الدولي، أو أي من الجهات الخارجية المانحة لن يمر. ولغاية الآن لا يوجد أي مؤشرات جدية تشي بامكانية موافقة الصندوق على ما “يطبخ” محلياً. وما استمرار محاولات التفاوض معه إلا على أمل قبوله بما يمكن أن يقدم الجانب اللبناني. وهنا يبرز سيناريوان: إما رفضه بالكامل لما يقدم، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من التأزم والإنهيار. وإما قبوله بمساعدة جزئية نتيجة ضغوط سياسية وهذا ما يعطي السلطة “نفساً” إلى بضع سنوات.
لغاية الآن الشيء الوحيد الذي يترجم من سياسة السلطة على أرض الواقع هو العمل على ترك هذه الخسائر إلى مدى زمني طويل جداً. “لعل وعسى يأتي يوم ويحصل أمر ما ونتخلص من الودائع”، تلفت المصادر. و”هذا ما يمكن الاستدلال عليه من محاولة تمرير قانون الكابيتال كونترول في الجلسة الأخيرة. حيث كان كل هاجسه كيفية قوننة عملية احتجاز الودائع بالعملات الاجنبية التي كانت موجودة قبل تشرين الأول من العام 2019. وإكمال الحياة بشكل طبيعي. وهذا ما يعني أن هناك إقراراً مسبقاً بان السلطة تساهم بخلق طبقتين: طبقة الاشخاص التي كونت ودائعها قبل 19 تشرين الأول 2019 وطبقة المودعين الجدد.
ch23