نحور وندور ونعود إلى النغمة ذاتها. إنها حكاية إبريق زيت المعاناة اليومية للبناني، الذي لم يعد يهمّه شيء في هذه الدنيا سوى تأمين “القوت اليومي”. وقد يكون هذا ما يريده بعض الذين أتعبتهم “كثرة دحشة” اللبنانيين، الذين يدّعون أنهم يفهمون في كل شيء، ويريدون أن يعرفوا “البيضة مين باضها”.
لقد أضجر اللبنانيون العالم بأسره، ولم يعد أحد يبالي بما آلت إليه حالتهم المادّية والنفسية، حتى أن وزير الخارجية والمغتربين الدكتور عبدالله بوحبيب، وفي آخر إطلالة إعلامية له، أكد بل جزم بأن لا أحد من العالم مهتمّ بأمر لبنان وناسه، بإستثناء قلّة بالطبع، ومن بينهم الكرسي الرسولي وفرنسا، وبعض الأشقاء والأصدقاء، الذين يعتبرون أن إنهيار لبنان يعني إنهيار سلّم من القيم والمبادىء في عالم قد أصبح رهينة التجارة العالمية، واسيرًا لمصالح لها علاقة بالتسابق على التسّلح وغزو الفضاء الخارجي.
لم يعد الملف اللبناني من أولوية الإهتمامات الدولية، وهو لم يكن يومًا كذلك كما تؤكده مصادر ديبلوماسية. فالعالم مشغول بإمور يعتبرها حيوية أكثر من أي مسألة أخرى، وقد تقدّمت أزمة اوكرانيا وإحتمال شنّ روسيا هجوم عليها على ما عداها من شؤون وشجون، وإن كان مؤتمر فيينا قد إستحوذ على قسط وافر من هذه الإهتمامات، فضلًا عن حرب اليمن وأبعادها الإقليمية.
ولأن إهتمامات العالم هي غير إهتمامات اللبنانيين المشلولة حياتهم السياسية بفعل تعطيل عمل مجلس الوزراء، الذي كا يُعّول عليه الكثير، باتت أقصى أمانيهم، بكل فئاتهم وطبقاتهم وإنتماءاتهم السياسية والطائفية والمناطقية، تأمين رغيف الخبز، خصوصًا أن ثمة إشاعات عن الإقتراب من حافة نفاد القمح من المستودعات والمطاحن، إضافة إلى ما تشهده السلع الأساسية من فوضى في التسعير، التي باتت تتحرّك فقط صعودًا مع إرتفاع سعر صرف الدولار في الأسواق الموازية.
فلا حديث في الصالونات والجلسات يعلو على حديث سعر ربطة الخبز وأوقية اللبنة والجبنة وكيلو البرغل والعدس والفاصوليا، ناهيك عن أسعار اللحوم والدجاج والسمك والخضار والفاكهة، حتى أصبحت “أكلة” المجدرة موسمية، وهي التي كان يعتمد عليها الفقير في غذائه اليومي.
لم يعد يهتمّ اللبناني كثيرًا بما يدور حوله من تطورات، وهذا كان هدف الذين دفعوه إلى بلوغ مرحلة التأييس، بعدما رسموا له حدودًا ممنوع عليه تجاوزها، فقالوا له “إنت لا تفكّر نحن منفكر عنك”، وكأنه بات مكتوبًا على هذا الشعب الحافل تاريخه بالبطولات أن يحصر إهتماماته اليومية بتأمين أدنى حاجاته الضرورية فقط.
وبهذه الطريقة إستطاعوا أن يفشلوا الإنتفاضات الشعبية. وأدخلوا إلى عودها الطرّي سوسة السياسة فنخرتها من الداخل، ونقلوا إليها جرثومة قاتلة لا تقاوم فقط بالنوايا الطيبة لدى البعض.
يراهنون على حاجة الناس إلى لقمة الخبز ليعودوا من جديد إلى مركز السلطات، من خلال حصولهم على “شرعية” إنتخابية جديدة وتوكيل آخر من الشعب، الذي هو مصدر السلطات، ليعلنوا أنهم آتون إلى البرلمان بإرادة الناس، الذين سيعودون وينتخبونهم هم أنفسهم، وإن تبدّلت الأسماء بأخرى جديدة، على رغم الحملات الدعائية التي تقول للبنانيين “أوعى ترجعو تنتخبوهن هني ذاتن”.
ch23