كتبت يمنى المقداد في” الديار”:
يحلّ فصل الشتاء في وقت تنهمر فيه الأزمات، وهاجس الصقيع يشتّد لدى من يسكن المرتفعات أو الأطراف.معاناة سكان المناطق النائية ليست من عمر الأزمة الحالية، فهي تسبقها سنوات طوال من الإهمال، فلطالما ترك أهلها لمواجهة معاناتهم باللّحم الحيّ، باستثناء فترة الإنتخابات.
واليوم ينتظرون الشتاء، ولا يملكون ثمن السلاح الوحيد لمواجهة برده القارس، إذ تنحصر وسائل التدفئة في هذه المناطق بالمازوت والحطب، على أنّ الأخير يوازيه تكلفة، ما عدا من يملك أشجارا يمكن أن يستفيد من حطبها.
التدفئة أفقدت فنيدق مئات الأشجار المعمّرة
فنيدق إحدى أكبر البلدات العكاريّة، يبلغ عدد سكانها 40 ألف نسمة موزعون على 6800 وحدة سكنية، ترتفع من 1200 الى 2254 متر عن سطح البحر، توجد فيها قلعة “عروبة” وهي أعلى قمة في عكار وتعتمد على زراعة التفاح.
بهذه الكلمات عرّف رئيس بلدية فنيدق سميح عبد الحي البلدة التي تئن من الوضع المعيشي، مشيرا إلى أنّها تعتمد على زراعة التفاح التي أصيبت بانتكاسة هذا العام، حيث أجبر المزارعون- لعدم وجود سوق للتصريف وبرادات كافية- على بيع الصندوق الواحد وزن (25 كيلو) بدولارين فقط، موضحا أنّهم يعتمدون على ذلك لتأمين المازوت للتدفئة شتاء، في وقت يستمّر الصقيع والجليد في فنيدق طيلة أشهر الشتاء الثلاث حيث تترواح درجة الحرارة بين 2 و4 تحت الصفر.
كما عرض لأوضاع أهل المنطقة التي يبلغ الحدّ الوسطي للأسرة فيها 8 أشخاص، وينتمي معظم أبنائها إلى المؤسسة العسكرية، لافتا إلى أنّ العسكري الذي كان مرتاحا سابقا لم يعد يكفيه راتبه للمصروف و شراء المازوت، وشرح أنّ نسبة 80% من أبناء فنيدق يستخدمون المازوت للتدفئة، فيما لجأ بعضهم-بسبب إرتفاع سعره- إلى قطع الشجر الأخضر المعمّر لأكثر من 600 عام، فالمنطقة تحتوي على أفضل أنواع الأشجار المعمّرة في لبنان والشرق الأوسط، وغابة ” العذر” التي تتميز بمساحتها الواسعة وطول أشجارها التي قد تصل إلى 35 مترا، مشددا بأنّ المواطن يفعل ذلك مكرها هربا من الصقيع ومنعا لوفاة أحد أفراد عائلته.
اضاف: قبل دخول الشتاء بثلاثة أشهر رفعنا الصوت، وناشدنا الجهات المعنية الرسمية والجمعيات البيئية لافتا إلى أنّ ثروة فنيدق الوطنية مهدّدة، أشجار عمرها مئات السنين كاللّزاب والصنوبر والأرز والسنديان وغيرها، وقد فقدنا مئات الأشجار المعمّرة، ولم تتحرك الجهات الرسميّة ، فالغابات تتعرّض للإبادة، كاشفا أنّ الكارثة الافظع والأخطر هو أنّ البعض يقطع الشجر ويبيعه وهناك فرق كبير بين شخص خائف من البرد و بين تاجر جشع.
مبادرة المازوت الإيراني
وفي ظلّ إهمال الدولة لسكان الأطراف في فصل البرد، برزت مبادرات منها تقديم المازوت الإيراني بسعر مخفّض، وهو ما أشار إليه عبد الحيّ، شارحا بأنّ المازوت وصل للمواطن في فنيدق بسعر مليونين و140 ألف ليرة للبرميل الواحد، فيما يبلغ سعره في السوق 150 دولارا، وقد وصلنا 500 ” بون” كل منها يساوي برميلا ( 200 ليتر) للمواطنين الأكثر فقرا، لافتا إلى أنّ بعض العائلات ليست قادرة أن تدفع ثمن أكثر من 5 ليتر مازوت، ومنها من يرسل أطفاله لتعبئة ليتر أو ليترين مازوت للتدفئة يوميا، مؤكدا أنّ نحو 40 أو 50 شخصا فقط من أبناء فنيدق تمكّنوا من شراء براميل، مع الإشارة إلى أنّ كلّ أسرة تحتاج إلى 5 براميل طيلة الشتاء.
في المقابل، كيف تتعامل بلدية فنيدق مع هذه المعضلة الشتوية؟ يجيب عبد الحي أنّ لا إمكانيات عند البلدية لشراء المازوت للمواطنين، موضحا أنّ نسبة المغتربين من أبناء المنطقة لا تتجاوز 3%، والمقيم إمّا مزارع أو عسكري وقد أصبح 98% من السكان تحت خط الفقر، كما ليس لدى البلدية أيّ مدخول خارج الصندوق البلدي الذي تموّله وزارتا الداخلية والبلديات والمالية، وشدّد أن لا أحدا يمكنه أن يحلّ مكان الدولة الأم التي يفترض أن تعطي الأمن والراحة والأمان لمواطنيها الذين أصبحوا خارج الاطر التي يحترم فيها الانسان، فأصبح المواطن مذلولا مضطهدا مظلوما بلا كرامة لا تستقبله المستشفيات لا يستطيع إرسال أطفاله إلى المدارس والجامعات، وختم:” لبنان قرية واحدة همومنا ومشاكلنا وافراحنا واحزاننا واحدة، ولكن مناطقنا مختلفة بين مرفهة منعمة وأخرى منكوبة ومحرومة منذ عشرات السنين حتى اليوم”.
نتخلّى عن بعض ممتلكاتنا كي نؤمن وسائل التدفئة
أحمد صلاح الدين من سكان فنيدق، ٣٩ سنة، أب لولدين، يعمل في التجارة العامة، قال لـ ” الديار”: “الضائقة الاقتصادية أكثر صعوبة في المناطق الجبلية في فصل الشتاء نظرا للحاجة للتدفئة، وبالمجمل نعتمد على المازوت وقد دفعنا ارتفاع سعره إلى تقنين مصروفنا، فاليوم راتب المليون ليرة لا يؤمّن لنا سوى بعض الحاجات اليوميّة، ووصلنا إلى مرحلة نتخلّى فيها عن بعض ممتلكاتنا كي نؤمن وسائل التدفئة والطعام والشراب والإستشفاء لأولادنا وأهلنا، فهناك من يبيع دراجته النارية أو قطعة أرض أو ذهب، ولا أعرف إلى أيّ مدى نستطيع أن نقاوم وخصوصا أنّ أي منزل يحتاج إلى 5 أو 6 براميل مازوت للتدفئة، وختم بأنّ ما يزيد صعوبة العيش في فنيدق هي البطالة.
يتشارك حسين سجد من سكان الهرمل، 47 عاما، أستاذ في التعليم الأساسي وأب لخمسة أولاد، المعاناة مع أحمد، ويخبر “الديار” أنّ الهرمل معروفة بطقسها البارد لارتفاعها 780 مترا عن سطح البحر، ما يزيد حاجتها إلى التدفئة، شارحا أنّ العائلة الواحدة تحتاج إلى حوالي 10 ليتر مازوت يوميا، أي نحو برميل ونصف شهريا لمدة 4 أو 5 أشهر، بسعر 3 مليون ونصف ليرة للبرميل في السوق السوداء، ما يكلّف العائلة الواحدة نحو 20 مليون ليرة لتأمين تدفئة جيّدة، لافتا إلى أنّ مبادرة حزب الله ساهمت بتأمين 3 براميل مازوت لكلّ عائلة بسعر مليونين ليرة للبرميل الواحد، أي نحو 6 ملايين ليرة خلال الشتاء، ما يخفّف من حدّة الأزمة، لكن لا يلغي عجز معظم الناس عن تأمين هذه المادة، مشيرا إلى أنّ سعر الحطب مكلف أيضًا، ما دفع بالكثيرين إلى التخفيف من استخدام وسائل التدفئة خلال النهار، فيما لجأ آخرون إلى إشعال الكرتون والبلاستيك الذي يلحق الضرر بصحة الأطفال والمسنين.
سجد أوضح أنّ مشكلة غياب التدفئة تشمل أيضًا مراكز العمل والمدارس، لافتا إلى أنّ الاوضاع المعيشية ترتّب مشاكل صحية واجتماعية تهدد أمن وسلامة المجتمع، وختم:”كلّما تأملنا أنّ الوضع سيصبح افضل وأنّ الدولة ستسارع لإجراءات تحسينية نتفاجأ أن الازمة تتصاعد، لكن الأمل موجود رغم كلّ شيء”.
سعر برميل المازوت يشكلّ ضعف الدخل الشهري
للإطلالة على الوضع الشامل لبلدة الهرمل البقاعية، قال عضو مجلس اتحاد بلديات الهرمل الباحث الإجتماعي عباس الجوهري ل “الديار”: إنّ سعر برميل المازوت الذي يصل اليوم لنحو 4 ملايين ليرة، يشكلّ ضعف الدخل الشهري لـ 90% من عائلات الهرمل، خصوصا موظفي الدولة وأصحاب الحرف البسيطة، ورأى أنّنا أمام معضلة حقيقيّة في موسم البرد القارس حيث هناك أطفال ولا يوجد مازوت، مشيرا في المقابل إلى مبادرة قام بها حزب الله للتخفيف عن كاهل الناس حيث قدّم برميل المازوت للمواطن بنصف التكلفة، كما وضعت تسهيلات لمن لا يملك ثمن البرميل كاملا.
وذكر أنّ بعض عائلات الهرمل تمتلك أراض مزروعة بأشجار الجوز والمشمش غيرها، وقد عمد بعضهم إلى إستخدام بعض أغصانها للتدفئة، ولكنها لن تكفيهم طيلة الشتاء، أمّا من ليس لديه مساحة زراعية أو بستان فيعتمد على مدفأة المازوت.وحول ما إذا كان الحطب أوفر من المازوت أكد أنّ التكلفة هي نفسها فسعر طن الحطب يبلغ مليونين ونصف ويكفي لمدّة أربعين يوما.
وللتكيّف مع الأزمة الحالية، يلجأ المواطنون إلى تقنين مصروفهم من المازوت، وفق الجوهري، فيتم تشغيل الـ”صوبيا” مع اقتراب الليل وفي غرفة واحدة، كما وتنتشر ظاهرة جمع الخشب وأعواد الحطب يومياً عن الطرقات من قبل الفئة المعدمة من اللبنانيين واللاجئين السوريين، معتقداً في المقابل أنّه سيكون هناك قطع أشجار خضراء، ولكن سيمرّ الموضوع بأمان لان الكمية التي خلفها حريق جرود الهرمل صيفا كانت كافية لمن يتاجر بالأخشاب، ما سيحمي الغطاء النباتي المتبقي. كما أردف بأنّ الأهالي لن يقطعوا الأشجار المثمرة كالزيتون والجوز والعنب والمشمش، فما يمكن أن يتم تحطيبه هو أشجار السرو والميس والتوت.
ما أصعب الخيار حين يكون بين البشر والشجر، فكلاهما حياة، وفي لبنان يتعرّضان لخطر الموت يوميّا، على أنّ معاناة الأطراف تستحيل أكثر صعوبة و شراسة ، حيث لا يراعى البشر ولا الشجر، وما هو أخطر من الصقيع هذه الدولة التي تقتل الناس بدم بارد!