كتب جان كلود سعادة في” نداء الوطن”:
إذا أردنا أن نقولها بالطريقة الشعبية فما حصل مع المصارف اللبنانية هو “آخرة التذاكي”.
على مدى عقود تم تصوير القطاع المصرفي اللبناني على انّه درّة التاج في الإقتصاد الوطني فهو القادر على تصدير النموذج اللبناني “الفذّ” إلى المنطقة والعالم. وطوال كل هذه السنوات كانت المصارف تكبُر وتتجدد بالشكل والمضمون والإنتشار والفروع والهوية المؤسسيّة وقد وظّفت الكثير من الخبرات الجيدة والواعدة كما إنها وظّفت الكثيرين لإرضاء السياسيين والنافذين. لكن نقطة التحوّل في هذا القطاع لم تكن في التوظيف الخدماتي ولا في توزيع عقود الإعلانات والإستشارات والرعايات التي في احيان كثيرة لم تكن تنسجم مع الهوية التجارية لهذه المصارف وأهدافها الإستراتيجية.
خطيئة القطاع المصرفي المميتة كانت في اختياره التضحية “بالثقة”. فعامل “الثقة” في العمل المصرفي هو الرأسمال المعنوي والمهني لأي مؤسسة مصرفيّة وهو يأتي من حيث الأهميّة قبل رضى الزبائن عن الخدمات المصرفية وتطوّرها وتنوّعها. فقد كتب هذا القطاع بنفسه ورقة اعتزاله ونهايته كمؤسسات وكعلامات تجارية جرى صرف مئات ملايين الدولارات على بنائها وتلميعها والآن لم يعد أمامها سوى صرف الموظفين والبحث عن مصارف أخرى تقبل الإستحواذ عليها. لقد اختارت المصارف، ورغم اعتراض بعضها، المخاطرة بودائع ثلاثة أجيال من اللبنانيين في سبيل الربح السهل على طاولة البونزي الكبير. وقبل انفجار الأزمة وخلالها عمدت إلى تهريب ثروات أصحابها ومديريها وبعض السياسيين ومن يدور في حلقتهم الضيقة بينما احتجزت أموال المودعين.
إعادة الودائع
من هنا، فالممر الإلزامي لإستعادة الثقة بقطاع مصرفي يمكن الاعتماد عليه في اعادة بناء الاقتصاد هو التوقف عن التذاكي ومحاولات تحميل المودعين نتائج ثلاثة عقود من السياسات الخاطئة. فالمطلوب هو الإلتزام الصريح بإعادة كامل ودائع الزبائن وبعملة الإيداع بضمانة سياديّة من الدولة اللبنانية. فمن دون ضمان حقوق المودعين ووضع آلية منطقية لإعادة الودائع تدريجياً لن يكون هناك عودة للثقة ولا لتدفق العملات الصعبة من المغتربين إلى القطاع المصرفي لا حالياً ولا مستقبلياً.
أمّا عن شكل القطاع المصرفي مستقبلاً فالحديث عن إعادة هيكلة أو إصلاح لا تبدو انها خيارات واقعيّة ولا ممكنة بعد سنتين من التسبب بأزمة من الأسوأ عالمياً اضافةً الى مجموعة من الممارسات التي فاقمت المشكلة وأقلّ ما يقال فيها أنها كانت يائسة وبائسة.
لبنان بحاجة الى مصارف جديدة بالكامل وجاهزة لممارسة دورها في الاقتصاد الوطني في اسرع وقت ممكن بينما إعادة تكوين قطاع مصرفي من الصفر على أسس محترفة وضمن ضوابط تمنع السقوط في الممارسات القديمة سوف تكون عملية صعبة وطويلة جداً.
عملية زرع
من هنا الحاجة الى عملية “زرع” تُخرج القطاع من مرضه في مهلة أقصر وتُمكّنه من لعب دوره في إعادة النهوض. لذلك يجب التفاوض مع مصارف أجنبية معروفة ومن بلدان مختلفة بهدف دخولها بشكل وازن في رساميل عشرة مصارف جديدة يتم إطلاقها وادراج اسهمها في البورصة لكي تكون اسهمها متاحة للجمهور. كما يمكن للمصارف اللبنانية القادرة على الاستمرار ان تساهم في هذه المصارف الجديدة ضمن شروط وضوابط يتفق عليها. عملية الإنتقال التدريجي من النظام القديم إلى المصارف الجديدة سوف تتكفّل بفصل المصارف الجيدة عن المصارف المتعثرة.
الثقة خرجت وبالتأكيد لن تعيدها نفس الممارسات والأساليب ولا حتى نفس الوجوه والأسماء. هناك ثمن مرتفع يجب دفعه لإعادة الثقة بهذا القطاع على أمل أن تكون الفاتورة الموجعة منشطة للذاكرة وحافزاً لعدم الوقوع في الحفرة نفسها مرّة أخرى.