كتب مهدي قانصو في” الجمهورية “:
عصفت بلبنان منذ تشرين 2019 الأزمة المالية الأشدّ على اللبنانيين، وقد كان واضحاً منذ بداية الأزمة لمعظم المحللين الاقتصاديين والماليين المطّلعين على تفاصيل استثمارات المصارف اللبنانية في مصرف لبنان والقطاع العام أن حجم الفجوة (الخسارة) تتراوح بين 60 و80 مليار دولار.
بالرغم من كثرة طروحات الحل والخبرات اللبنانية المحلية والعالمية التي أمعنت في الإضاءة على أساس المشكلة وسيناريوهات الحل، فشل صانعو القرار اللبناني في وضع أسس جدية للحل تضمن الحفاظ على أدنى حقوق المودع اللبناني.
المالية العامة أساس الأزمة
قد يكون السبب الرئيسي لتلاشي آفاق الحل عدم وجود معرفة لأُسس المالية العامة لدى معظم الطبقة السياسية في لبنان معطوفاً على عدم وجود إرادة جامعة للحل في ظل وجود 32 مليار دولار من الاحتياطي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان (وقتها) وأكثر من 18 مليار دولار من موجودات الذهب.
في القيمة التقديرية اعتُبرت هذه الاحتياطات مطمئنة وكافية لعدم إعلان حالة طوارئ اقتصادية ومالية، في مقابل النظرية العلمية التي أجمعت أن هذه الاحتياطات لا تكفي أكثر من 30 % من مطلوبات الدورة المالية اللبنانية وبالتالي حتمية التعرّض لخسائر ضخمة، والتي بالفعل أسقطت هيكل النظام اللبناني ولو بعد حين.
حلول بديهية مفقودة
من الملفت عدم قدرة صنّاع القرار اللبناني على اجتراح حلول ولو بسيطة أثبتت فعاليتها في دول كثيرة واجهت التعثر المالي مثل اليونان وفنزويلا ومصر وإيطاليا واسبانيا والبرتغال. من الحلول البديهية التي اتّبعتها هذه الدول:
1- الإقرار (خلال أسابيع) لقوانين تراقب وتنظّم حركة رأس المال (Capital Control)
2- الانتقال السريع لمشاريع إنتاجية في قطاعات الطاقة والبنى التحتية والاتصالات بتمويل من صندوق النقد والاستثمار الأجنبي المباشر عبر المغتربين وغيرهم.
3- رفع الدعم الكامل عن السلع المستوردة المستهلكة للعملة الصعبة.
4- إعادة جدولة الديون ضمن خطة اقتصادية ومالية متكاملة.
5- التفاوض مع الدائنين لتحديد الخسائر وتحقيقها (Haircut) ما يعدّ أساسياً لإعادة إعمار الاقتصاد.
6- رفع إيرادات الدولة عبر التشدد في ملاحقة التهرّب الضريبي.
7- تخفيض العطاءات السخية لبعض القطاعات والموظفين العاميين وصرف عدد من المتعاقدين.
8- وضع سياسات الحوكمة لمراقبة وزيادة إنتاجية القطاع العام
«التجربة اللبنانية» في التعامل مع الأزمة
سيذكر التاريخ للأسف أن لبنان لم يُطبّق أياً من أُسس الحل البديهية المذكورة أعلاه، والتي أثبتت فعالية كبيرة في الحد من الخسائر، وفي بعض الأحيان وضع أسس لازدهار اقتصادي كما حصل في إيطاليا واسبانيا ويحصل حالياً في مصر والبرتغال…
على الأغلب ستسرد كُتب الاقتصاد والهندسة المالية في المستقبل «التجربة اللبنانية» في التعامل مع الأزمة والتي سيكون قوامها أمثلة عن التدهور التاريخي بقيمة العملة الوطنية وتعدد أسعار الصرف والحجز غير المنظّم على أموال المودعين وتحميل المودع الجزء الأكبر من خسائر الدورة المالية (الحلقة الأضعف)، والتباين بين الدولار المصرفي والفريش (قمة الإبداع اللبناني) ودعم سلع ثانوية وتهريب السلع المدعومة وفقدانها من الأسواق، وغيرها أمثلة كثيرة مما يعانيه المواطن اللبناني بشكل يومي.
في المحصّلة وبعد سنتين من الأزمة المستمرة، أهدر لبنان 20 مليار دولار حيث انخفضت الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان من 32 مليار لتلامس 12 مليار دولار الذي يمثل الاحتياطي الإلزامي للمصارف. يُعتبر هذا المبلغ كفيلاً بإنعاش اقتصادات عالمية ضخمة. على سبيل المثال لا الحصر، وقّع صندوق النقد الدولي ومصر في تشرين الثاني 2016 اتفاقية قرض بقيمة 12 مليار دولار بهدف معالجة نقاط الضعف في الاقتصاد وتعزيز النمو الشامل وخلق فرص العمل، كانت كفيلة بإنعاش مصر اقتصادياً (أكبر بعشرة أضعاف من حجم الاقتصاد اللبناني) وتقريباً تخطّي الأزمة الاقتصادية خلال سنوات قليلة أحدثت فيها مصر فورة عمرانية وزيادة سنوية في الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 5.5%.
ماذا بعد سنة 2022
تكاد تكون معظم الجهود المبذولة لتاريخه موضعية ومحصورة في إيجاد حلول قريبة المدى لتأمين الاحتياجات الأساسية للبنانيين في ظل استمرار الأزمة على مختلف الصعد وفي غياب مُستغرب لخطة اقتصادية مالية شاملة طال انتظارها، والتي بدت بوادرها مع خطة شركة لازارد في 2020 مع وقف التنفيذ.
في ظل محدودية الفكر والجهد الاستراتيجي وفي ظل تعاظم تشعّبات الأزمة اللبنانية قد يكون الحل الوحيد (الأسهل) في 2022 العودة جزئياً الى انتظام المالية العامة عبر زيادة الضرائب على مختلف انواعها خصوصاً على الكماليات (الجمركية، العقارية، الخدم، السفر، الاتصالات…) لما فيه من أثر مباشر وسريع على زيادة الإيرادات وتخفيض الكتلة النقدية بالليرة في الأسواق.
لا يُعَدّ هذا الإجراء الموضعي حلاً بل يجب أن يُواكَب بحوكمة صارمة لضمان تحقيق الإيرادات وأن يُستكمَل بخطط وإجراءات جذرية متوسطة وطويلة المدى تأخذ بعين الاعتبار الوضع اللبناني، مستفيدة من تجارب الدول التي مرّت بأزمات مشابهة خصوصاً أن الطاقات العملية والعلمية اللبنانية شاركت في قصص نجاح مالية واقتصادية لكثير من الدول المتقدمة والنامية.
في الختام، يكاد يكون حديث اللبنانيين الأوحد هو سعر صرف الليرة وتوجهاته المستقبلية، وبالتالي الجدير ذكره أن تدهور سعر الصرف سيبقى سيّد الموقف وإن أي حديث عن تحسّن سعر الصرف يبقى مؤقتاً يليه تدهور إلى حين انتظام المالية العامة عبر الخطوات الآنفة الذكر.