كتب خالد أبو شقرا في” نداء الوطن”:
إنتهت سنوات “العسل” بين المصارف اللبنانية والسلطة النقدية. وعلى حد قول المثل البيروتي “الفقار بيجيب النقار”، طفا تقاذف المسؤوليات بعد “تبخر” عشرات مليارات الدولارات من النظام المصرفي بين البنوك ومصرف لبنان على سطح “مستنقع” الأزمة الاقتصادية. حاكم المركزي لا يفكر مرتين بالاجابة أن “أموال المودعين في المصارف”، عندما يُسأل عن مصير الودائع. فيما برز مؤخراً ما يشبه الحملة المضادة من المصارف تتهم الأخير باجبارها بشكل مباشر وغير مباشر على توظيف النسبة الأكبر من ودائعها لديه.
تحت عنوان “توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان: القصة الشائعة والحقيقية”، فنّد الأمين العام لـ”جمعية مصارف لبنان” د. مكرم صادر سياسة “المركزي” التي اعتمدها منذ العام 1993 ولغاية 2021. فمن خلال مجموعة من التعاميم ألزمت السلطة النقدية المتمثلة بالحاكم ونوابه، ومدير عام وزارة المالية والاقتصاد، ومفوض الحكومة، البنوك على توظيف النسبة الأكبر من الودائع لدى مصرف لبنان. وقد توزعت التوظيفات على 3 فئات: إلزامية بنسبة 15% من الودائع، خفضت مؤخراً إلى 14% وبلغت في نهاية أيلول 2020 حوالى 14.6 مليار دولار. نظامية، تمّ فرضها من قبل المجلس المركزي عبر مجموعة من التعاميم والقرارات التي صدرت من تاريخ 17/9/1993 وحتى أيلول 2021 وقد فاقت قيمتها 60 مليار دولار. وأخيراً الاختيارية وقد “سيّرها” المركزي بعد العام 2016 باتجاهه من خلال تحديد المخاطر والنسب المتوقعة للخسائر. وأيضاً، من خلال الاشتراط على المصارف (2017) شراء شهادات بالدولار من أجل تسييل شهادات إيداع الليرة، أو توظف الدولارات لديه بشكل ودائع طويلة الأجل. ليخلص إلى أن “المسؤولية الأساسية تقع على سياسات الحكومات المتعاقبة بالدرجة الأولى ثم على المجلس المركزي لمصرف لبنان ثم على المصارف، وأخيراً على المودعين. وليس واضحاً كيف سيترجم هذا التدرج بالمسؤوليات تدرجاً في توزيع الفجوة المالية لدى البنك المركزي”. مبدياً الخشية من “تحميلها في النهاية للحلقة الأضعف مقارنةً بسلطة الدولة، أي لمساهمي المصارف ولكبار المودعين إزاء أوضاع الخزينة والبنك المركزي”.
توزيع الخسائر “بيت القصيد”
بيت قصيد الهجوم المضاد هو “من سيتحمل الخسارات”، يقول المصرفي وعضو مجلس الإدارة المستقل السابق في أكثر من بنك صائب الزّين. فـ”المصارف تطرح قضيتها للمرحلة المقبلة إنطلاقاً من أن قسماً من الخسارات فُرض عليها، وأن مسؤوليتها في تضييع الودائع محدودة”. وإلى حين الوصول إلى هذه المرحلة التي من المتوقع أن تطول، فان “النتيجة التي وصلنا إليها، بغض النظر عمّن يتحمل المسؤولية الأكبر، كانت حتمية”، بحسب الزين. وذلك بسبب التداخل الكبير بين القطاع المصرفي والقطاع العام و”المركزي”. فالأخير لم يلعب دور المنظم Regulator كما يقتضي دوره. بل على العكس، فقد أسهمت تعاميه من جهة، والاستمرار طويلاً بتثبيت سعر صرف العملة بشكل مخالف لقانون النقد والتسليف من جهة ثانية على دولرة الاقتصاد، ورفع الحواجز التي يجب أن تفصل بين دوره وعمل المصارف الخاصة. في المقابل فان البنوك تعمل في بلد اقتصاده ضعيف، ويحمل مخاطر كبيرة، ولا سيما مع التمويل غير المحدود لتثبيت سعر الصرف والانفاق على الكهرباء والقروض المدعومة بشتى المجالات، وتحديداً في القطاع العقاري. الأمر الذي عطل الاقتصاد المنتج وحوله إلى ريعي.
فوضى القطاع المالي
إنطلاقاً مما تقدم، واستناداً إلى المنطق الهرمي في الإدارة، تظهر بشكل واضح المسؤولية الكبيرة التي تترتب على السلطة النقدية، حيث “تحول حاكم المصرف المركزي بعد سنوات من التداخل إلى “رئيس مجلس إدارة – CEO” القطاع المالي، واستحال رؤساء مجالس إدارات المصارف إلى أعضاء مجلس إدارة هذا القطاع”، هذا التوصيف السريالي، قد يكون بحسب الزين، “خير معبر عن المشهدية المصرفية التي حكمت لبنان طوال السنوات الماضية، وتحديداً من بعد العام 2008 عندما أُوقف البرنامج مع صندوق النقد الدولي الذي كان قد بدأه الوزير السابق للمالية جهاد أزعور، والهادف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد”. مما زاد الأمور قتامة هي سياسة “المركزي” القائمة على الفوائد المرتفعة. حيث فاقت نسبها ما يُعطى على “اليوروبوندز”، وجرى تثقيل الأخيرة بمخاطر أعلى تراوحت بين 100 و150 في المئة من أجل أن يجذب الودائع. كما أن القول إنه “عندما اشتدت الأزمة اشترط مصرف لبنان بيع المصارف الدولارات في سوق القطع لتغطية مبيعاتها للزبائن، وأجبرها على ان تودع لديه لآجال طويلة نسبة 20 في المئة، على ان تحولها من حساباتها بالعملات لدى المصارف المراسلة”، صحيح، من وجهة نظر الزين، “إنما في المقابل هذا لا يعفي المصارف من المسؤولية. حيث كان بامكانها وقف التحويل من الليرة إلى الدولار، وأن تكون أكثر حذراً من وضع كل السيولة المتبقية في “المركزي” للاستفادة من الفوائد العالية. وألا تنجر للهندسات المالية خلال “عصر” سيولتها الخارجية”. ذلك أن الواقع الذي كان يمر به الاقتصاد وتباطؤ النمو وتاريخ التجارب الماضية تبرهن بما لا يقبل الشك أن سياسة مصرف لبنان لم تكن في الاتجاه الصحيح. وهذا ما لحظه في وقت مبكر الرئيس السابق لجمعية المصارف فرنسوا باسيل ووضع عنه المصرفي الراحل نعمان الازهري كتاباً تفصيلياً عن مخاطر ما كان يجري على الصعيد العام.
الجشع المصرفي
لم تستطع المصارف اللبنانية التصدي لغريزة “الجشع”، وقد دخلت بملء إرادتها بلعبة الفوائد المتدلية من مصرف لبنان، مفضلة المخاطرة على الربح القليل أو حتى إمكانية الخروج من السوق أمام دوامة استجلاب الودائع وإعطاء الفوائد. وقد ساهمت سياسة المركزي في الانعكاس سلبياً على المصارف في شقين رئيسيين:
– تجفيف السيولة، وتحديداً بين العامين 2016 و2019.
– العجز عن الايفاء، بسبب عدم التوافق بين المطلوبات والموجودات، بعدما عمدت المصارف إلى توظيف الودائع قصيرة الأجل لفترات طويلة جداً في “المركزي” وصلت إلى 10 سنوات للاستفادة من الفوائد المرتفعة.
ذلك مع العلم أن مسؤولية المركزي في المادة 156 من قانون النقد والتسليف تنص على التالي: “على المصارف أن تراعي في استعمال الاموال التي تتلقاها من الجمهور القواعد التي تؤمن صيانة حقوقه. وعليها بصورة خاصة ان توفق بين مدة توظيفاتها وطبيعة مواردها”.
الخطأ الإداري
أكثر من ذلك، يعتبر الزين أن “واحدة من الأسباب الرئيسية لتفاقم أخطاء المركزي والمصارف التجارية على حد سواء تتعلق بسوء غياب سياسات الحوكمة الرشيدة والشفافية”. فكما في المجالس المركزية السابقة لمصرف لبنان (الوضع مخالف كما يظهر مع المجلس الحالي)، كما في مجالس إدارات المصارف لا توجد معارضة لقرارات رئيس المجلس، الذي هو بالمناسبة نفسه المدير العام. فـ”ثقافة أعضاء المجالس المستقلين المفترض بهم أن يشكلوا الأكثرية، أو أقله نسبة 50 في المئة هي “صُدّق”. يترافق ذلك مع نقص في المعرفة والخبرة في الشؤون المالية والبنكية في بعض الأحيان، وتضارب في المصالح في بعضها الآخر. واللافت عدم تقديم أي مصرفي استقالته منذ بدء الأزمة كتعبير عن حسّ بالمسؤولية تجاه ما حصل.
الأرباح كمية وليست نسبية
الهجوم المضاد للمصارف لم يعف نقض “أسطورة” الفوائد باعتبارها لم تحقق للبنوك أكثر من 1.1 في المئة، جزء منها يقتطع لتغطية نفقات الاستثمار. وهي نقطة تستحق التوقف عندها بـ”اعتبار أن الربح المحقق في القطاع المصرفي لا يتعلق بالنسبة فقط إنما بالكمية”، من وجهة نظر الزين، “حيث كانت تزداد كمية الربح سنة بعد أخرى بنسب مرتفعة، خصوصاً خلال السنوات العشر الأخيرة”. وقد أتت هذه الارباح بأكثريتها من القطاع العام، أي من خلال التوظيفات في مصرف لبنان ومن الدولة اللبنانية. كما أنه كان من الملاحظ زيادة توزيعات القطاع المصرفي من الارباح خلال السنوات الأخيرة التي سبقت الأزمة، والتي تحول قسم منها إلى الخارج.
الحذر كان واجباً
السياسة الحكيمة كانت تقتضي منذ العام 2011 تحديداً أخذ الكثير من الحيطة والحذر في القطاع المصرفي. فـ”المركزي” كان عليه السماح للمصارف بالإقلال من توزيع الأرباح لتعزيز السيولة وزيادة الرساميل. مع العلم أن رساميل الأخيرة طبقاً للمعايير العالمية كانت أقل من المسموح به. ولا سيما اذا اعتبرنا أن تثقيل المخاطر على المصرف المركزي كانت 50 في المئة فقط، “مع العلم أنها كان يجب أن تكون على الأقل 100 في المئة”، برأي الزين.
أما وقد وقع المحظور، فان العبرة تبقى في تحمل المسؤولية أولاً، ومن بعدها عدم تكرار الاخطاء السابقة وولوج من يبقى إلى العمل المصرفي السليم، القائم على الاستقلالية والإدارة الفضلى للمخاطر والابتعاد عن “الاستزلام” والانجرار للربح الريعي السريع.