كتبت فرح نصور في “النهار”:
التوجّه إلى تعدين العملات الرقمية ظاهرة تنتشر بشكلٍ ملحوظ في لبنان، لا سيما في المناطق التي تتغذى من الكهرباء بشكلٍ كبير، سواء بطريقة شرعية أم غير شرعية. وفيما يجذب الربح السريع والسهل العديد من الناس حول العالم إلى هذا الاستثمار، كانت الأزمة الراهنة في لبنان سبباً إضافياً لجذب عدد كبير من اللبنانيين، طمعاً بمدخولٍ بالدولار، وإن كان المبلغ قليلاً، فـ”عاللبناني بتفرق” مع ارتفاع سعر صرف الدولار.
في بادئ الأمر، فلنعرّف تعدين العملة الرقمية. في مقالٍ نشرته شبكة BBC عن تعدين عملة البيتكوين، عرّفت فيه هذه العملية بأنّها عملية إنشاء عملة جديدة باستخدام أجهزة الكمبيوتر لحلّ الخوارزميات، وفك الشفرات الرياضية المعقدة. ويقوم مستخدمو بيتكوين الذين يُطلق عليهم مُجازاً اسم “عمّال المناجم”، بعملية حفظ البيانات وعمليات التداول وتسجيلها في سلاسل محاسبية تسمى كل منها “سلسلة الكتل” (#blockchain)، وهي أشبه بدفتر الأستاذ العام في عالم المحاسبة.
أسئلة كثيرة تُطرَح حول هذا الاستثمار غير المألوف لناحية أسعار الأجهزة المطلوبة وشروط استخدامها ومشروعيّة هذا الاستثمار وتحدّياته ومخاطره، والأرباح المنتظَرة منه، خصوصاً وأنّ مفاعيله غير ملموسة لمس اليد.
سالم (اسم مستعار) هو أحد الأشخاص الذين دخلوا هذا العالم الآن، و”ما جعلني أدخل عالم الاستثمار في تعدين العملات الرقمية هو بشكل أساسي الأزمة الاقتصادية ومردود الدولار الذي يبحث الجميع عنه”. فالدافع الأساس لديه، كان ارتفاع سعر الدولار، ففي السابق، كانت فكرة إنفاق 10 آلاف دولار للحصول على 100 دولار شهرياً هو استثمار غير جاذب و”مش محرِز”، بينما الآن أصبحت الـ 100 دولار رقماً كبيراً، وفق سالم.
إضافة إلى ذلك، جذب سالم المردود السريع، كونه موظّفاً، إلى جانب عامل أساسي وهو توفّر الكهرباء في المنطقة حيث يسكن، قرب معمل عبد العال، إذ تتغذى المنطقة على الأقل بـ 20 ساعة من الكهرباء يومياً، فالتعدين بحاجة إلى كهرباء بكلفة منخفضة.
وعن إلمامه بهذه التجارة، يقول سالم: “لم أكن أعرف ولا زلت لا أعرف جيداً عالم العملات الرقمية والاستثمار فيه، ورغم ذلك، قرّرت شراء الأجهزة، لكنّني سألت قبل القيام بهذه الخطوة عن المردود، وكانت الأصداء إيجابية جداً وذلك شجّعني”. المشروع يستردّ رأسماله بعد 8 أشهر، بناءً على الأجهزة التي اشتراها سالم، ويبدأ بعدها الربح الصافي، “فهذا استثمار يُدخل دولار “فريش” بشكل ثابت، ولا يحمل مخاطر كاستثمار التداول بالعملات الرقمية”، وفق شرحه.
كلّف الشاب هذا الاستثمار حوالي 12 ألف دولار، و”بمجرّد تشغيل الأجهزة، تبدأ بتسجيل الأرباح، وقيمة الأرباح هذه تتعلّق بقيمة العملات الرقمية في البورصة”. وحالياً، يستثمر سالم بالإثيريوم “لأنّه ثابت أكثر من البيتكوين.
كيف انتشرت في لبنان وما مخاطرها؟
برزت هذه الظاهرة في لبنان بشكل مكثّف بعد انتشار كورونا وأزمة القطاع المصرفي، ما جعل الناس يتّجهون إمّا إلى الادّخار أو إلى الاستثمار، لكن مع انهيار المصارف اتّجه الناس إلى الاستثمار أونلاين، بحسب استشاري عملات رقمية ومؤسِّس شركة BuyBitcoinLeb، نادر الديراني. وبما أنّ محلات ألعاب الكمبيوتر أقفلت بسبب كورونا آنذاك، استغلّت حواسيبها في تشغيل برامج التعدين، لتسجيل أرباح سهلة دون الحاجة إلى زبائن.
إلى جانب انتشار كورونا وأزمة المصارف، وبحسب حديث الديراني لـ”النهار”، شكّل ارتفاع سعر صرف الدولار دافعاً هاماً للاستثمار في تعدين العملات الرقمية، الذي يجعل من أقلّ أرباح التعدين مبلغاً له قيمة. وسوّقت مواقع التواصل الاجتماعي والمؤثرين التعدين، وصوّروه كأنّه الحبة السحرية في جني الأرباح.
الأرباح في هذا الاستثمار كبيرة. لكن يجب التنبّه إلى كلفة الاستثمار والأخذ بالاعتبار ماهية جهاز التعدين، والمساحة الموجود فيها، سواء كان منزلاً أم شقة أم أرضاً، وتبريد الأجهزة وصيانتها وتحديثها، وهذه كلّها أكلاف.
ولا شكّ في أنّ الإقدام على هذا الاستثمار له أيضاً مخاطر وخبايا يجب معرفتها. أهمّها امتلاك المعرفة الوافية عنه، إلى جانب بعض الملاحظات التقنية في استخدام الجهاز ومواصفاته، والمردود الحقيقي له، وعدم الانجرار في أرقام مردود خيالية.
إلى ذلك، ينصح الديراني بوجوب أن يمتلك الشخص الجهاز القادر على التعدين، ولكلّ عملة رقمية جهاز تعدين خاص بها، مع ضرورة الانتباه إلى قيمة هذه العملات في البورصة، واختيار العملة الرقمية التي لا تفقد قيمتها لكي تعود بالأرباح.
الاستثمار في أجهزة التعدين: آليات الاستخدام، الأسعار والتحديات
يتضمّن مجال التعدين أنواعاً كثيرة، من أهمّها ما يُسمى proof of work، أي لقاء بدل عمل التعدين. في هذا الإطار، يحلّ حاسوب ضخم (#GPU) خوارزميات معقَّدة ومشفَّرة، وبذلك يتقاضى المعدِّن بدل توظيف حاسوبه لخدمة هذه العملية. ويتطلب هذا النوع بطاقات خاصة كبطاقات الألعاب الإلكترونية ويستهلك طاقة كهربائية كبيرة. لكن في لبنان، تُعتبر كلفة الكهرباء ، رغم غلاء الاشتراك، بالنسبة إلى مردود التعدين بالدولار، منخفضة.
ويشرح مهندس الاتصالات والخبير في تعدين العملات الرقمية، جورجينو عبود، في حديثه لـ”النهار”، أنّ النوع الآخر من التعدين هو عبر أجهزة الـ ASIC. وهو جهاز صُنع خصيصاً ومبرمَج للتعدين، بشكلٍ سريع. وتتوفّر من هذا الجهاز أنواع مختصّة بتعدين كل عملة رقمية.
وعن سوق هذه الأجهزة في لبنان، يؤكّد عبود أنّ “هذه السوق في لبنان أصبحت كبيرة جداً، فالطلب على أجهزة التعدين يكون طلباً مسبق الدفع، وتُسلّم بعد وقت طويل يمتدّ لشهر أو شهرين وأحيانا أكثر، حسب نوع الأجهزة”. والشركات المورِّدة لهذه الأجهزة باتت ضخمة جداً في لبنان، وكبرت في وقت وشكلٍ قياسيين.
وفي الوقت الذي تجذب الأرباح السريعة والسهلة الناس للتعدين، يورد عبود أنّ “الأرباح تتعلّق بأنواع الأجهزة، لكن معدّل الأرباح هو 8% صافي”، فمثلاً استثمار بحوالي 12 ألف دولار في التعدين، يعود بحوالي 800 دولار شهرياً.
بالطبع لا يخلو هذا المجال من التحديات. وفي لبنان بوجه خاص، تكمن هذه التحديات بشكل أساسي في الكهرباء، بما أنّ البلد يعاني من هذه الأزمة، سواء في غيابها أم في ارتفاع سعرها. كما يشكّل أيضاً انقطاع الإنترنت وغلاء سعره في وقت لاحق تحدّياً كبيراً.
إلى هذه التحديات، تُضاف الأرباح غير الثابتة، فهي مرتبطة بتقلبات أسعار العملات الرقمية التي يتم تعدينها.
وفيما هناك أجهزة مختلفة ومتنوعة للتعدين، يمكن الحديث عن أنّ أسعارها تبدأ تقريباً من حوالي 1200 دولار وصولاً إلى حوالي 70 ألف دولار.
هل تعدين العملات الرقمية قانوني في لبنان؟
التعدين قانوني بحسب الديراني، لكن هناك بعض البلديات تطالب بتوقيف المعدّنين لأنّهم يشكّلون ضغطاً على شبكات الكهرباء . لكنّ الدولة لا يمكنها توقيف هؤلاء الأشخاص بتهمة التعدين، لأن لا قانون يمنع تعدين العملات الرقمية في لبنان حتى الآن. كذلك يتّفق عبود مع الديراني، حول مشروعية تعدين هذه العملات في لبنان. ولم تسجل حوادث وقف أو ضبط لمعدنين حتى الآن.