تتنوّع مصادر التمويل التي تضخّ ملايين الدولارات سنوياً لمصلحة منظّمات «مجتمع مدني» في لبنان، وتتنوّع القضايا التي يجري تمويلها، من السياسة إلى الثقافة والتنمية والتعليم. لدى تفحّص هذه المصادر، يبرز الاستنتاج المهم، وهو أنّ غالبية هذه الجهات المموِّلة هي مؤسسات خاصة، ويصل حجم تمويلاتها السنوية المعلَنة إلى أضعاف حجم تمويلات مؤسسات الدول الرسمية. «مؤسسة المجتمع المنفتح» التابعة للملياردير الأميركي جورج سوروس، أبرز هذه المؤسسات الخاصة وأخطرها
يزخر محرّك البحث «غوغل» بمقالات وفيديوهات حول الملياردير الأميركي المولود في المجر جورج سوروس، دفاعاً عنه وهجوماً عليه، علماً أنّ غالبية الجهات التي تدافع عن «رائد العمل الإنساني» و«داعم القضايا التقدّمية والتحرّر» تتموّل من مؤسساته، وفي مقدمها «مؤسسة الترويج للمجتمع المنفتح» (Foundation To Promote Open Society)، ثالث أكبر مؤسسة أميركية للتمويل – أو ما يُسمّى «العمل الخيري» – بعد مؤسستَي «وارين بافيت» و«بيل وميليندا غيتس».
ما يميّز سوروس عن مؤسسات التمويل «الخيري» الأميركية الأخرى هو الانتشار الجغرافي الواسع للقضايا التي يموّلها في العالم. يدّعي موقع «مؤسسة المجتمع المنفتح» أن سوروس تبرّع، منذ عام 1979، بحوالى 16.8 مليار دولار لدعم قضايا الديمقراطية والحوكمة وحقوق الإنسان والحريات في 7 مناطق جغرافية حول العالم (أفريقيا، آسيا الباسيفيك، أوراسيا، أوروبا، أميركا اللاتينية، الشرق الأوسط، شمال أفريقيا والولايات المتحدة). وبحسب التقرير المالي لـ«مؤسسة الترويج للمجتمع المنفتح» (2019، وهو الأحدث) المصرَّح عنه لوزارة الخزانة الأميركية، صرفت المؤسسة 669,775,500 دولار، ضُخَّت بشكل مباشر في 96 دولة، وذهب 51 مليوناً منها لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكان نصيب لبنان منها نحو 3,618,000 دولار، معظمها لمنظّمات ذات طابع ثقافي.
هذا المبلغ ليس ثابتاً ويتفاوت بين سنة وأخرى، لكنّه يضع لبنان في المرتبة الأولى عربياً كوجهة تمويل لمؤسسة سوروس لعام 2019 (لم تصرّح مؤسسات المجتمع المنفتح بعد لوزارة الخزانة الأميركية عن بياناتها للعام المالي 2020، لكن بحسب الموقع الإلكتروني للمؤسسة، بلغ حجم ما ضخّته في لبنان عام 2020 حوالى 6,655,000 دولار). وفي الأعوام السابقة تفاوت تمويل «مؤسسة الترويج للمجتمع المنفتح» المباشر في لبنان، ففي عام 2018 بلغ 3,036,948 دولاراً، ونحو 8,978,000 دولار عام 2017، ونحو 3,728,000 دولار عام 2016 (انظر الرسم البياني للاطّلاع على مجموع التمويل المباشر لبقية السنوات).
مع بداية العقد الثاني من الألفية الحالية، بدأت «مؤسسة الترويج للمجتمع المنفتح» – أُسست عام 2008 – بضخّ أموالها في لبنان بشكل مباشر، عبر المؤسسات الأكاديمية الأميركية وفي مقدّمها الجامعة اللبنانية الأميركية LAU التي حصلت عام 2011 على حوالى 266 ألف دولار. ومع احتدام أحداث «الربيع العربي» عام 2012، بدأ حجم التمويل بالتصاعد تدريجياً، ليصبح لبنان عام 2019 – وفق أحدث كشف مالي للمؤسسة – في مقدّمة الدول العربية التي تضخّ فيها مؤسسة سوروس أموالها مباشرة.
لكنّ مؤسسات سوروس، كما العديد من صناديق تمويل منظمات الـ NGOs الأميركية، لا تكتفي بضخّ التمويل مباشرة في الدولة المستهدَفة، بل تعتمد أسلوب «التمويل من الباطن» عبر ضخّ مبالغ كبيرة في صناديق ومؤسسات في كل من هنغاريا (موطن سوروس الأمّ) وبريطانيا (وطنه الذي لجأ إليه ويسكن فيه) والسنغال والولايات المتحدة، وبدورها تقوم هذه الصناديق والمؤسسات الفرعية بتمويل مؤسسات في دول أخرى مستهدَفة. على سبيل المثال، مجموع ما دفعته مؤسسة سوروس عام 2019 بشكل مباشر في دول جوار الصين بلغ نحو 34,365,000 في كلّ من: أندونيسيا، طاجيكستان، بورما، تايلاند، قيرغيزستان، منغوليا، نيبال، كوريا الجنوبية، ماليزيا، أفغانستان، كمبوديا، الفليبين، تايوان، هونغ كونغ وبنغلادش. هذه الأموال ذهبت إلى معاهد أكاديمية ومؤسسات ومنظمات مجتمع مدني روّجت للمفاهيم الليبرالية ومناصرة قضايا العولمة الثقافية التي تسعى لتصوير الصين والحزب الشيوعي الصيني على أنّهما خطر على دول جنوب شرق آسيا ووسط آسيا والباسيفيك
بدأ حجم التمويل للبنان بالتصاعد مع احتدام أحداث «الربيع العربي» عام 2012
الأموال التي تحوّلها «مؤسسة الترويج للمجتمع المنفتح» إلى هنغاريا تذهب بشكل أساسي إلى «مؤسسة معهد المجتمع المنفتح في بودابست» (حوالى 190 مليون دولار عام 2019)، ومنها تتوزّع على منظّمات غير حكومية ومؤسسات أكاديمية هدفها لبرلة المجتمع الهنغاري كـ«الجامعة الأوروبية المركزية» التي أسّسها سوروس عام 1991، واضطر لنقل مقرّها إلى فيينا بعد ضغوط حكومة فيكتور أوربان اليمينية عام 2018. ولا تقتصر تبرّعات «مؤسسة معهد المجتمع المنفتح في بودابست» على داخل هنغاريا، إذ إنها أساساً مخصَّصة لتمويل المجتمعات المدنية في دول أوروبا الشرقية ولا سيما تلك التي كانت ضمن المعسكر الشرقي.
وفي أفريقيا تضخّ مؤسسة سوروس عشرات ملايين الدولارات سنوياً في كل من السنغال وجنوب أفريقيا. في الأولى، أسّس سوروس «مبادرة المجتمع المنفتح لغرب أفريقيا» عام 2000 كمركز لإعادة تمويل المجتمعات المدنية في دول غرب أفريقيا، حيث تقوم «المبادرة» على دعم المنظّمات غير الحكومية المروّجة لأفكار العولمة الثقافية الليبرالية، من خلال توفير عشرات ملايين الدولارات سنوياً (81 مليون دولار عام 2019). وفي جنوب أفريقيا، أسّس سوروس عام 1997 «مبادرة المجتمع المنفتح لجنوب أفريقيا» التي تموّلت عام 2019 بحوالى 37 مليون دولار، ذهبت لدعم المجتمعات المدنية في كل من أنغولا، بوتسوانا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، ليسوتو، ملاوي، موزمبيق، ناميبيا، سوازيلاند، زامبيا وزيمبابوي. في زيمبابوي مثلاً كانت ما تُسمى «حركة التغيير الديمقراطي» إحدى المنظّمات الرئيسية (المموّلة من «مبادرة المجتمع المنفتح لجنوب أفريقيا») التي سعت لتغيير نظام الحكم عبر ثورة ملوّنة ضد الرئيس روبرت موغابي.
يُذكَر أنّ مؤسسات «المجتمع المنفتح» أصبحت ممنوعة من العمل في كثير من الدول نظراً إلى الدور التدخّلي السلبي الذي مارسته لتحقيق رغبات الملياردير الأميركي ومن يقف وراءه من منظّري تيار العولمة الثقافية الليبرالية. ففي روسيا طُرِد مع مؤسساته قبل سنوات، وفي مصر شُدِّد الخناق على التمويل الأجنبي مع صدور قانون الجمعيات الأهلية فتضرَّر عمل مؤسسات سوروس، وفي هنغاريا طرد أوربان مؤسّسات سوروس وجامعته (مع أنّه أحد خرّيجيها عام 1990). وفي الصين وصف الإعلام الحكومي أخيراً جورج سوروس بـ«الإرهابي»، على خلفية تمويله منظّمات في هونغ كونغ وشينجيانغ ومنغوليا تعمل ضد النظام الحاكم.
ماذا عن لبنان؟ البيئة كانت خصبة لاستثمار مؤسسات سوروس حتى قبل الانهيار والأزمة، وقانون الجمعيات العثماني لعام 1909 المعمول به لضبط تسجيل وعمل الجمعيات وتمويلها أقلّ ما يُقال فيه أنّه منتهي الصلاحية، والطبقة السياسة الحاكمة أدارت وجهها لسنوات عن التمويل الأجنبي العشوائي غير المراقَب.