تلعب القرارات النقدية، عن قصد أو بالصدفة، دوراً سلبياً في توزيع المتبقي من الثروة. فكلما عمل «المركزي» على مداواة «جرح» الليرة، سالت جراح المودعين، وتعاظمت أرباح المضاربين. النزيف الذي «يصفّي» الاقتصاد لن «يندمل» ما لم يُعِد مصرف لبنان «خنجر» التعاميم إلى «غمد» السياسة النقدية السليمة، و»استلال» الحكومة «سيف» الخطة الاصلاحية.
أقفل الاسبوع المنصرم على سعر صرف في السوق السوداء أقل من سعر «SAYRAFA». إلا أن الانخفاض المطلوب للدولار، قابله تحقيق قلة قليلة أرباحاً هائلة. فمع إعلان الحاكم في منتصف الأسبوع الماضي عن فتح سقوف شراء الدولار بالليرة النقدية، عمد أحد المصارف إلى شراء ما يناهز 6 ملايين دولار من مصرف لبنان على سعر صيرفة الذي كان وقتها 24700 ليرة. ولكن بدلاً من بيعها للمودعين أستفاد المصرف من الاقفال العام في يوم الغضب ليبيعها للصرافين على سعر 31500 ليرة. ليعود ويفتح يوم الجمعة ويشتري بالليرات دولاراً من مصرف لبنان على سعر 26000 ليرة. وبهذه العملية حقق ربحاً لا يقل عن 2 مليون دولار وحرم المحتاجين من المودعين والموظفين من «لحس إصبعهم» من التعميم 161 وعاد لـ»يشحذهم» الـ 100 دولار.
المضاربون هم المستفيدون
هذا مثال واحد عن مصرف حقق 2 مليون دولار بـ»جرة قلم»، فكم سيكون المجموع إذا أضفنا كل عمليات الصرافة من قبل المضاربين التي جرت بين منتصف ونهاية الأسبوع الفائت؟! «حسابات حقل» مصرف لبنان بتعميم الاستفادة من التعميم 161 على كل شرائح المجتمع، لم تتطابق مع «حسابات بيدر» السوق السوداء. فـ»الاخيرة متفلتة من أي ضوابط، ويتم التحكم بها لمصلحة المضاربين»، يقول خبير المخاطر المصرفية د.محمد فحيلي. حيث شجع التعميم المحتكرين وكل من يحمل مبالغ كبيرة بالليرة ويتمتع بسهولة الدخول على صيرفة بان يتحولوا إلى مضاربين».
المستهلك هو الخاسر
أمام هذا الواقع بدأت تبرز اتجاهات جدية لدى التجار بالتسعير علناً بالدولار. ولا سيما أن الصغار منهم الذي اشتروا بضائع على سعر 33 وحتى 35 ألف ليرة، سيفلسون إذا ما خفضوا أسعارهم إلى 24 ألف ليرة بين ليلة وضحاها. وهذا لم تأخذه وزارة الاقتصاد بالحسبان، حين أعطت مساحة للمحتكرين أن يربحوا ولبقية التجار أن يخسروا أرزاقهم وشقى سنواتهم. وعليه فان المستهلك سيبقى إلى أجل غير مسمى يسدد ثمن المشتريات على نسب مرتفعة تفوق بأشواط ما يحصل عليه من دولارات من منصة صيرفة.
أين تذهب الدولارات؟
الدولارات التي تخرج من المركزي تصل إلى المصارف، ومنها للمودع، ومن ثم للسوق السوداء، حيث يذهب جزء منها باتجاه المستوردين، والجزء الآخر يعود لمصرف لبنان. فليس من مصلحة الصرافين بوصفهم تجار عملة الاحتفاظ بالدولار. إلا أن المشكلة برأي فحيلي هي أن «الدولار تحول من وسيلة لتسديد المدفوعات إلى هدف للمضاربة. وأصبحت عملية الصرف جنة المضاربين. فحجم فاتورة الاستيراد تقلص بشكل ملحوظ بالمقارنة مع السنوات الماضية. وعليه فان ما يحصل عليه التجار من ليرات يسمح لهم بالتحول إلى مضاربين في السوق عبر الشراء من صيرفة على منخفض من ثم البيع بالسوق السوداء على سعر مرتفع… وهكذا دواليك «.
توحيد سعر الصرف!
الهدف الذي كان يطمح اليه المركزي من خلال إطلاق منصة صيرفة وهو توحيد سعرها مع سعر صرف السوق، انتفى مع تخفيضه سعر صيرفة إلى 23900 ألف ليرة. والهدف حسبما يظهر هو «إفساح المجال أمام المودعين وأصحاب الرواتب الموطنة للاستفادة من فرق السعر على المنصة وسعر السوق السوداء»، يقول المحامي المتخصص في الشأن المالي والمصرفي عماد الخازن. «مع العلم أن توحيد السعرين من شأنه توحيد معيار سعر الصرف والحد من التلاعب به من قبل المضاربين».
الاستدامة معدومة
«عادة ما يستفيد بعض الأشخاص أو الجهات في الأزمات على حساب البعض الآخر»، يقول الرئيس التنفيذي لشركة «Advisory and Business Company» علاء غانم. لكن ليس بالضرورة أن نصور هذه الاستفادة وكأنها ربح للمصارف أو الصرافين وخسارة للمودعين. فلولا التعميم 161 لكان سعر الصرف ما زال يحلق عالياً. ولكان الموظفون يتقاضون رواتبهم على سعر صرف 1500 ليرة، والمودعون يسحبون حقوقهم إما على سعر 8000 ليرة، كما ينص تعديل التعميم 151، وإما مناصفة على سعر 12 ألف ليرة كما ينص التعميم 158. وعليه لكانت خسائر أصحاب الرواتب بالليرة أكثر من 95 في المئة وخسائر المودعين أكثر من الثلثين». إلا أن مشكلة هذه السياسة هي عدم امتلاك مصرف لبنان القدرة على السير فيها الى النهاية، بسبب محدودية موارده من جهة، واستمرار فقدان الثقة من جهة أخرى. و»كل ما يحاول فعله» برأي غانم هو واحد من اثنين:
– إما الرهان على شراء القليل من الوقت افساحاً في المجال أمام إيجاد حلّ بالسياسة. وفي هذه الحالة أمامه شهران للتدخل بالحد الأقصى.
– إما الرهان على تكرار تجربة التسعينات في تخفيض سعر الصرف من خلال صرف الأموال المكدسة في الخزنات والمنازل (تذهب بعض الآراء إلى تقديرها بـ 5 مليارات دولار).
تجربة التسعينات لن تتكرر
فمع وصول سعر الصرف إلى 3800 ليرة مطلع تسعينات القرن الماضي، عمد المركزي إلى ضخ ملايين الدولارات في السوق مراهناً على الحالة الايجابية بوصول الرئيس رفيق الحريري. وبالفعل أدت هذه السياسة وقتها إلى انخفاض سعر الصرف إلى 2700 ليرة. عندها، ولاسباب غير متوقعة بدأ المواطنون اخراج ما في خزائنهم من دولارات، وبيعها في السوق. فتراجع السعر إلى 1500 ليرة. فما كان من الحاكم إلا أن قام في العام 1997 بتثبيت سعر الصرف عند هذا المستوى. لكن بحسب غانم «الوضع اليوم مختلف بشكل جذري. فعلى الرغم من أن الاحتياطيات المصرح عنها تعتبر أكبر مما كانت عليه في الماضي، بيد أن البلد ما زال في مرحلة «السقوط الحر»، وذلك على عكس فترة التسعينات عندما كانت قد بدأت مرحلة التعافي، والإعمار وعودة الثقة».
الانعكاس الضبابي الذي يميل إلى السواد للتعميم 161، يقابله انقشاع بالرؤية عند حاكم «المركزي»، يُظهر ذوبان اللولارات المجمعة في المصارف على المدى المتوسط والقريب. وبالتالي تخفيض الخسائر عن القطاع المصرفي بعدما جرى تحميلها للمودعين. وهنا يسأل محمد فحيلي عن «مصير التعميم 154 المتعلق باعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعزيز رساميله! وعن استنسابية المصارف التي امتثلت لتعديلات التعميم 161 الصادرة ببيان صحافي وليس بتعميم وسيط كما تقتضي الأصول. ذلك مع العلم أن كل التعاميم تساهم بتفريغ القطاع المصرفي اللبناني من الودائع (الوهمية) والزبائن، ولا تقدم أي قيمة مضافة لبناء قطاع قوي ومستقل في المستقبل.
Ch23