كتب خالد أبو شقرا في” نداء الوطن”:
متلازمة النسيان واحدة من أكبر المشاكل التي تدفع المنظومة إلى “الاستئساد” على أرزاقنا. فبالإضافة إلى تسطيح الوعود وتفريغها، تعتمد الأخيرة في ممارساتها الفوقية على مراكمة المشاكل، لتحوّل الذاكرة الجماعية إلى ما يشبه ذاكرة أسماك الحوض الذهبية. ففي الوقت الذي يبلغ فيه الصراع على الدولار الجمركي أوجه، يتناسى المسؤولون، أو لا يعرفون، أن هذا الرسم التعريفي كان يجب أن يلغى قبل عقدين من الزمن.
مع بداية الألفية الثالثة استحدث لبنان الضريبة على القيمة المضافة TVA. أهداف هذه الضريبة بحسب واضعيها لم تكن زيادة إيرادات الدولة فحسب، إنّما التماشي مع المتطلبات الدولية والإقليمية. فـ”الشراكة المرتقبة مع الاتحاد الأوروبي، التي ترمي إلى إقامة منطقة تجارية حرّة بين “الاتحاد” والدول المتوسطية المرشحة للمشاركة، ستؤدي إلى تخفيض تدريجي للرسوم الجمركية إلى أن تلغى كلياً”، بحسب التبريرات التي ساقها واضعو الضريبة على القيمة المضافة آنذاك. و”على الصعيد الإقليمي، هناك الاتفاقات الثنائية مع بعض الدول المجاورة كسوريا ومصر، واتفاقية منطقة التجارة العربية الحرة، التي تهدف إلى إلغاء القيود والرسوم على حركة السلع والخدمات بين لبنان والدول الأعضاء”.
ضريبة على الضريبة
إذاً، فرضت الضريبة على القيمة المضافة، بدايةً، بنسبة 10 في المئة منذ العام 2001، لتحلّ مكان التعريفة الجمركية، “لكن لا الرسوم الجمركية أزيلت بشكل كامل كما هو مفروض بعد أكثر من 20 عاماً، واستمرّ الخطأ المقصود بفرض هذه الضريبة على الدولار الجمركي”، يقول خبير المحاسبة المجاز والعضو في جمعية “مدراء مؤهلون لمكافحة الفساد” الأستاذ جوزيف متّى: “هذا الخطأ ليس خللاً تقنيّاً عابراً، إنّما هو مخالفة فاضحة على صعيد الانتظام الضريبي في العالم. إذ لا يجوز بأيّ شكل من الأشكال وضع ضريبة على الضريبة”.
رفع الرسوم الجمركية لا زيادتها
في خضمّ التحضير للمؤتمرات الدولية الداعمة للبنان في فرنسا (باريس1 و2) اتفق على تشجيع التبادل التجاري بين لبنان والدول الأوروبية، والمساعدة على جعل بضائع الأخيرة المرتفعة الثمن، منافسة للبضائع الصينية. فتقرّر تخفيض الرسوم الجمركية تدريجياً عن كل البضائع التي تحمل شهادة منشأ أوروبية (يورو 1) وصولاً إلى إلغائها كلياً في العام 2010. والعكس بالعكس، أي أنّ البضائع ذات شهادة المنشأ اللبناني تستفيد من تخفيض الرسوم الجمركية عند الدخول إلى الأسواق الأوروبية”، يقول صاحب شركة METRANS للشحن روني نعمة: “كما طبق رفع الرسوم على التبادل التجاري بين لبنان والدول العربية تبعاً لاتفاقية التيسير العربية”.
ضريبة “إلى حين”
بالفعل طبّق لبنان هذه المعاهدة على البضائع ذات المنشأ الأوروبي لبضع سنوات. إلا أنّه مع تأزّم الوضع الاقتصادي وتراجع مداخيل الدولة “عنّ على بال” المسؤولين إعادة العمل بالرسم الجمركي. ولكن نظراً إلى حساسيّة هذا الموضوع وتعريضه الاتفاقيات للخطر تم ابتكار رسم جديد على هذه البضائع بنسبة 3 في المئة. وللتخفيف من آثار هذه الضريبة وامتصاص نقمة واعتراض الشركاء الأوروبيين عليها اعتبروها ضريبة “إلى حين”. “أي أنّها غير ثابتة ويمكن استردادها في ما بعد، حين البتّ بها”، بحسب نعمة. و”هذا ما لم ولن يحصل. الأمر الذي أساء إلى سمعة لبنان في الخارج نتيجة الإخلال بفرض ضرائب مبهمة ومخالفة المعاهدات”.
النية كانت موجودة
المدير العام لوزارة المالية بالإنابة جورج معراوي يعتبر أن “الرسم الجمركي هو نوع من أنواع الحماية للمنتجات المحلية وكل دول العالم تعتمده مع الضريبة على القيمة المضافة. وقانون الأخيرة لا يتضمن بشكل صريح ومباشر إلغاء الرسوم الجمركية. على الرغم من أنّه في فترة من الفترات كان هناك نية لإزالة الضرائب والرسوم كلّها، واستبدالها بالضريبة على القيمة المضافة. لكن هذا الأمر لم يطبّق بشكل شامل”. أما بخصوص فرض TVA على الرسوم الجمركية، فيعتبر معراوي أننا في لبنان نستعمل الآليات والمبادئ الضريبية نفسها أسوة بمختلف الدول التي تطبّق الضريبة على القيمة المضافة.
المشكلة بتعدد سعر الصرف
على هذا المنوال تخضع البضائع كلّها، باستثناء المعفاة منها أساساً، سواء كانت ذات منشأ عربي أو أوروبي أو خلافه للتعريفة الجمركية، التي ستصبح بعد إقرار الموازنة على سعر صرف السوق. مع العلم أنه كان يمكن تحييد الكثير من البضائع عن هذه الزيادة الكبيرة لو تمّ الالتزام بالمعاهدات والوعود. من جهة أخرى، فإنّ “اعتماد سعر صرف السوق على تعريفات الواردات السلعية كان ليكون طبيعياً، من دون أن يحدث هذه الخضة لو كان لدينا سعر صرف موحد لليرة مقابل الدولار”، برأي رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين (ALDIC) كريم ضاهر. فالتفاوت في سعر الصرف ووجود واحد رسمي، وأكثر من واحد للسحوبات البنكية، وآخر لدعم بعض السلع والمواد الأولية، وسعر لصيرفة وآخر مغاير لسعر السوق الموازية… خلق هذه الشرذمة. و”توحيد سعر الصرف يجنّبنا الخلاف على الدولار الجمركي ويسمح للمستهلكين الموازنة بين مدخولهم ونفقاتهم والتزاماتهم”، برأي ضاهر. “ولكنه في المقابل يؤثر سلباً على المصارف التي ما زالت لغاية اليوم تسدّد الودائع على أسعار أقلّ بكثير من سعر السوق، واحد منها ما زال على سعر 1500. كما أنّ الموازنة الحالية والخطة الحكومية تحتسب الاقتطاع من رأسمال المصارف (13 مليار ليرة) على أساس سعر الصرف الرسمي. مع العلم أنّ المنطق يفترض تبخّر الرأسمال الحقيقي للمصارف، وإلزامها بالاكتتاب بأموالها الصافية في الخارج بـ الفريش دولار”.
ضريبة التضخم
عدم تعويم سعر الصرف وتوحيده بشكل مرن يعني أنّ ما سيجبى من إيرادات سيكون على حساب المواطنين. فالدولار الجمركي ليس ضريبة بالمعنى الحقيقي للكلمة، إنما هو ضريبة التضخم”، برأي ضاهر. وتحديده بقيمة مخالفة لسعر الصرف الرسمي هو نوع من التلاعب الذي يعطي نتيجة مماثلة للضرائب الجديدة من حيث تأمينه الايرادات لسدّ النفقات، إنما لا يجعل منه ضريبة بالمعنى الأصلي. فالضرائب بمفهومها العام ليست “جزية” كما كانت أيام “الليرة العصملية” (العثمانية)، إنما مساهمة تضامنية من قبل المواطنين لتحسين حياتهم. وبهذا المعنى، فإن الدولار الجمركي سيزيد أعباء المواطنين وأكلافهم المعيشية ويفقد المبرر من وجوده. فدوره في النهاية بحسب ضاهر “هو تمرير الموازنة الانتخابية وإسكات جماعة الأحزاب “المتغلغلين” في القطاع العام، والذين يخصص لهم الجزء الأكبر من نفقات الموازنة”.
مع إقراره على سعر صيرفة فإن كلفة الدولار الجمركي ستكون باهظة على المواطنين والاقتصاد. ذلك أنّه سيخضع للضريبة على القيمة المضافة بنسبة 11 في المئة، التي بدأ باحتسابها هي الأخرى بالدولار طبقاً للقرار 893. هذا الواقع لن يثقل كاهل المكلف النهائي، أي المستهلك، إنما سيؤدي إلى أسوأ عملية تهرب ضريبي ممكن أن يشهدها بلد. خصوصاً مع فلتان الحدود وضعف أجهزة الدولة الرقابية. و”من سيتحمّل عبء تراجع المبيعات هي المؤسسات القانونية التي تلتزم القانون”، بحسب روني نعمة، “فسيتراجع مدخولها، وستتناقص عائدات الدولة بدلاً من أن ترتفع، وسيزيد عجز الخزينة ويتعمّق الانكماش الاقتصادي أكثر ويسود الاقتصاد الأسود”.