يلجأ كثيرون في لبنان إلى الاستثمار في العملات المشفرة كبيتكوين ويبحثون عن الأمان في نظام لا يفهمه سوى عدد قليل من الناس، وخاصة أن هذه العملية لا ترتبط بالنظام المالي، لكن تعدينها يؤدي في الحقيقة إلى تفاقم الأزمة.
يعيش لبنان أزمة اقتصادية طاحنة بعد أن تراكمت الديون على الحكومات المتعاقبة في أعقاب الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين 1975 و1990 دون أن تحقق إنجازات بهذا الإسراف في الإنفاق. حتى قبل الانفجار المدمر في مرفأ بيروت عام 2020، كان لبنان يمر بأزمة اقتصادية عميقة. ومنذ ذلك الحين، استمرت المدخرات التي تحققت بشق الأنفس في فقدان قيمتها كل يوم. وأصاب الشلل البنوك التي تعد محورية للاقتصاد القائم على الخدمات.
وعجز أصحاب المدخرات عن سحب أموالهم بعد أن حالت الأزمة بينهم وبين حساباتهم بالعملات الصعبة أو قيل لهم إن الأموال التي يمكنهم السحب منها الآن لم تعد تساوي سوى جزء صغير من قيمتها الأصلية. وانهارت العملة اللبنانية مما دفع قطاعا كبيرا من السكان إلى صفوف الفقراء.
ولهذا السبب يضع الكثير من اللبنانيين أملهم في العالم الرقمي. سواء كانوا ضباط شرطة أو خبازين أو طلاباً – يستثمر الكثيرون في العملات المشفرة مثل بيتكوين ويبحثون عن الأمان في نظام لا يفهمه سوى عدد قليل فقط من الناس.
ويقول ماريو عوض”في الواقع، يشتري الجميع مني: الطلاب وذوي الدخل المتوسط والأثرياء. الكل يريد الاستثمار في العملات المشفرة”. ماريو تاجر للعملات المشفرة يعمل في هذا المجال منذ خمس سنوات، ويتيح للأشخاص الوصول إلى بيتكوين وغيرها من العملات المشفرة. ويتم تداول العملات كملفات إذا صح التعبير. وما يميزها أنه يتم تخزينها بشكل لا مركزي. ولا تخزن في بنوك كبيرة. مروجوها يرون في هذه الخاصية ميزة كبيرة.
ويضيف ماريو:” أحياناً يرن هاتفي الخلوي في منتصف الليل. بالطبع لا أرد عليه حينها. لكن الطلب ضخم. يريد الناس الشراء كل يوم. لا يهم الوقت”.
والسبب في ذلك بسيط، إذ فقدت الليرة اللبنانية قدراً هائلاً من قيمتها في غضون عام. في المتوسط، عليك الآن أن تضع أكثر من ثلاثة أضعاف المال لشراء منتج ما كما فعلت قبل عام. وبالتالي فإن جزءاً كبيراً من السكان يواجه صعوبة في العثور على أكثر المنتجات الضرورية للحياة اليومية.
“مشكلة سعر الصرف”
هنري شاول الخبير المالي المتخصص في الجهاز المصرفي في لبنان، مقتنع بأن المشكلة الرئيسية هي أن سعر الصرف بين الليرة اللبنانية والدولار الأمريكي ثابت منذ فترة طويلة. ويضيف:” “بهذه الطريقة، حافظ الناس على نمط حياة لم يكن بمقدورهم تحمله من غير هذا النظام. وأثناء الأزمة وعندما توقف فجأة دفع المزيد من المدفوعات إلى البلاد من الخارج، توقف النظام ببساطة عن العمل. ثم أغلقت البنوك، وأراد الناس سحب مدخراتهم – ولكن بسبب عدم وجود احتياطيات لدى البنوك، انهار النظام”.
ولا تحتاج البيتكوين إلى بنوك أو حكومات، وهذا ما جعلها مطلوبة. وأصبح تقبل واكتشاف العملات المشفرة بالنسبة لبعض اللبنانيين، شبيه بالمزاج الذي ساد مع تزاحم الناس على مواطن اكتشاف الذهب.
وهو ما يؤكده المواطن اللبناني بسام سعادة. ويقول بهذا الصدد:” “منذ الأزمة، كان الناس هنا يخوضون المزيد من المخاطر. ولذلك في بعض الأحيان يتخذون قرارات سيئة أو يخاطرون كثيراً. أو لديهم آمال مبالغ فيها تماماً مع بيتكوين دون فهم المخاطر حقاً”.
سبق لبسام أن فقد أمواله. واشترى الرجل البالغ من العمر 36 عاماً بيتكوين لأول مرة في عام 2015. في ذلك الوقت كان يريد فقط تجربة شيء ما. ليس بسبب الأزمة، ولكن لأنه مهتم دائماً بأشياء جديدة. “في ذلك الوقت كنت لا أزال أتعامل مع بعض القصر في السابعة عشرة من العمر الذين جاؤوا على متن دراجاتهم النارية. كان معي مبلغ كبير من المال. شعرت بأن الأمر غير قانوني”.
البيتكوين بديل حقيقي لليرة اللبنانية؟
بالنسبة لبسام، فإن البيتكوين بديل حقيقي لليرة اللبنانية. وهذا ليس مجرد حلم بعيد المنال. إذ بعد احتجاجات عام 2019، أدخلت البنوك ضوابط على رأس المال. جعلوا سحب الدولارات وتحويلها أمرا مستحيلا. اليوم، يمكنك فقط سحب مدخراتك في لبنان بالليرة، مع قيود شهرية صارمة وبسعر ثابت.
ويضيف بسام: “إذا كان لديك دولارات أمريكية في حسابك قبل الأزمة، فقد تم تجميد الأموال الآن. نسميها “لولار” وهو “دولار لبناني”. لم يعد له قيمة بعد الآن. أما عندما يكون لديك المال في يديك، فهو دولارات حقيقية. لذا دولار مقابل لولار”.
الشيء الوحيد المهم هو دولارات أمريكية “حقيقية” نقداً. تلك التي لديك حق الوصول إليها. والتي لا يزال بإمكانك الحصول مقابلها على سلع بسعر رخيص إلى حد معقول في الحياة اليومية.
ويضيف بسام:” العملات المشفرة تعني دولارات حقيقية. والمال ليس مخزناً في النظام المالي اللبناني. إنه موجود في جميع أنحاء العالم. يمكنك تداوله وشراء الأجهزة الإلكترونية به. حتى تاجر الذهب هنا يأخذ المال من العملات المشفرة. ويمكنك الحصول عليه. ويباع في السوق السوداء. لذا فإن العملات المشفرة هي مال حقيقي، نوع من السيولة النقدية”.
تعدين العملات المشفرة يفاقم الأزمة في لبنان
لكن من المفارقات أن الطفرة في سوق عملات البيتكوين وغيرها من العملات المشفرة تؤدي إلى تفاقم الأزمة في لبنان، لأنه – ببساطة – يمكنك إنتاج العملات المشفرة بنفسك. فيما يسمى “التعدين”، يقوم الكمبيوتر بحل المهام الحسابية المعقدة وبالتالي يشارك في تعدين النقود. لكن أجهزة الكمبيوتر القوية للغاية وتبريدها يستهلكان أيضاً كمية كبيرة جداً من الكهرباء. وتسري في لبنان واحدة من أقل أسعار الكهرباء في العالم – لأن الدولة تدفع جزءاً كبيراً من الفاتورة. والعديد من عمال مناجم البيتكوين اللبنانيين يستنزفون شبكة الطاقة الكهربائية المثقلة بالفعل في البلاد.
وبالنسبة للعديد من اللبنانيين، الحياة اليومية صعبة والمستقبل غير معروف. وهم يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ويشير بسام إلى أن الناس يعتقدون “أن الأوقات الأسوأ قادمة في المستقبل. ويمكنك إما وضع أموالك تحت سريرك أو الاستثمار في العملات المشفرة أو شراء الذهب”.
ويشك كل من بسام وماريو عوض فيما إذا كانت العملات المشفرة هي الحل حقاً للأزمة المالية في لبنان. لكن العملات المشفرة تقدم على الأقل بعض الأمل. وهذا ما يبحث عنه حالياً الكثير من الناس في لبنان وبشدة – وأيضاً في العالم الرقمي.
المصدر : DW