لمواجهة ازمة انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ابتكر مصرف لبنان منصة “صيرفة” هادفاً من خلالها الى السيطرة قدر الإمكان على سعر صرف الدولار، وإتمام عمليات تمويل استيراد المواد الاساسية من فيول ومحروقات وقمح وأدوية ومواد استهلاكية بعد رفع الدعم، حيث يتعذر عليه ذلك بسبب الاستمرار باعتماد الـ 1507 كسعر رسمي حتى الآن.
لكن نجاح دور “المنصة” ووظيفتها، وخصوصا بعد تعديل التعميم 161 ودولرة رواتب وأجور العمال والموظفين، أفضى الى إيجابيتين: أولاهما هبوط سعر الدولار من 33 ألف ليرة الى 21 ألفا، والثانية شبه استقرار في سعر الصرف. وهذا الامر أوحى بأن قرارا ما، بمكان ما، إتُّخذ لتثبيت الدولار على حدود العشرين ألف ليرة، وتعززت هذه الفرضية باعتماد الحكومة سعر “صيرفة” لاحتساب أرقام الموازنة العتيدة. فهل تكون تسعيرة “صيرفة” إبرة مورفين تخفف آلام اللبنانيين موقتاً، أم تتحول الى علاج طويل الأمد حتى اكتشاف أو اعتماد دواء دائم للعجز البنيوي في هيكل الاقتصاد والفشل المزمن في إدارة مالية الدولة؟
منذ أكثر من شهرين يشهد سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار استقرارا نسبيا حيث انخفض من 33000 ليرة إلى أدنى من 21000 ليرة للدولار متأثرا بالتعميم الرقم 161 و”الدعاية الإعلامية” التي أثّرت على العنصر النفسي لدى الناس من أجل إخراج دولاراتهم المخبأة، وفق تعبير الأكاديمي والباحث الاقتصادي الدكتور أيمن عمر الذي يضيف: “بالطبع لسنا هنا أمام تكرار لتجربة التسعينات وتثبيت سعر الصرف عند رقم معيّن، وإنما الذي استدعى تدخل مصرف لبنان لتحقيق هذا الاستقرار النقدي عاملان رئيسيان:
الأول اقتراب الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في أيار المقبل، وتحقيق ظروف اجتماعية مستقرة وبيئة سياسية توافقية تمهيداً لإجرائها من دون مشاكل.
والعامل الثاني هو اتفاق ضمني مع حاكم مصرف لبنان للتدخل في السوق المالية مقابل استمرار التغطية السياسية له في مواجهة الدعاوى القضائية الموجهة اليه بقضايا فساد مالية”.
عمر اعتبر ان “مفاعيل تدخل مصرف لبنان عبر التعميم 161 برزت من خلال تأثيره على تحقيق الاستقرار النقدي. فقد أدى التعميم المذكور إلى تجفيف الكتلة النقدية بالليرة والتي كانت تحوّل بمعظمها إلى الدولار كملاذ آمن في الأزمات، وتاليا زيادة الطلب على الدولار وارتفاع سعر صرفه، كما أن هذه الكتلة هي السبب الرئيسي في توليد التضخم المالي”. وفي قراءته لميزانيات مصرف لبنان لاحظ عمر أنه “مع بداية الأزمة في تشرين الثاني 2019، كانت الكتلة النقدية بالليرة المتداولة في السوق تساوي 9054.97 مليار ليرة، ثم بدأت تأخذ منحى تصاعديا ووصولها إلى 30917.7 مليارا في نهاية العام 2020، وبلوغها نهاية العام 2021 مستويات قياسية 45761.31 مليارا بزيادة شهرية تراوح ما بين 1.5 مليار ومليارين في المتوسط، أي أن الكتلة النقدية ارتفعت نحو 5 أضعاف منذ بدء الأزمة حتى الآن. كما أنه لأول مرة في تاريخ الأزمة انخفضت الكتلة النقدية 5403.67 مليارات خلال شهرين منها: 1960.46 مليارا خلال 13 يوماً فقط في الفترة ما بين 15 شباط المنصرم إلى 28 منه لتصل إلى 40357.64 مليار ليرة”.
ولكن برأي عمر “لن يستطيع مصرف لبنان الاستمرار في تطبيق التعميم المذكور إلى أجل غير مسمى لأنه يستنزف الموجودات من العملات لديه المكونة من الاحتياط الإلزامي وحقوق السحب الخاصة 1.135 مليار دولار المقبوضة من صندوق النقد الدولي”. وبالعودة إلى ميزانيات مصرف لبنان يلاحظ عمر “انخفاضا في احتياط المصرف من العملات الأجنبية Foreign Assets منذ بداية العام مع تطبيق التعميم بنحو 894 مليون دولار، مما يعني أن مصرف لبنان استعمل الدولارات الخاصة بالمودعين أو من حقوق السحب هذه والتي يجب أن تُستعمل في مشاريع استثمارية عامة”.
يبدو عمر متيقنا من أن مصرف لبنان “استطاع تحقيق الاستقرار النقدي، وفي الوقت عينه قام باسترداد هذه الدولارات إلى خزينته، ناهيك بالتحكم بعمليات الصرافة في السوق المالية والسوق الموازية من خلال منصة صيرفة، ولكنها وللأسف كانت على حساب المودعين وحقوق السحب الخاصة”. ويستنتج ذلك من خلال بنود الميزانية، “حيث تضمنت ميزانية المصرف الصادرة قبل أيام بندا جديدا يظهر لأول مرة في تاريخ مصرف لبنان وهو Assets from exchange operations of finance أي موجوداته من عمليات الصرف، وهي تبلغ وفق سعر صرف منصة “صيرفة” 20200 نحو 895 مليون دولار، والتي سحبها من السوق عن طريق OMT وغيرها، وهي تساوي قيمة الانخفاض في الاحتياط من العملات الصعبة المذكورة أعلاه”. ويلاحظ أن الـ 895 مليون دولار “انتقلت من بند احتياط العملات الأجنبية إلى البند المستحدث وهو عمليات الصيرفة، أي أن مصرف لبنان لم يخسر هذه الأموال فعليا، بل على العكس ربح المصرف هذه الأموال، فضلاً عن تحقيق أهدافه بها. وهنا يُثار التساؤل الكبير: لماذا لم يقم مصرف لبنان بهذه الإجراءات منذ بداية الأزمة عندما كانت احتياطاته تتعدى الـ 33 مليار دولار؟”.
وبما أن الاستقرار النقدي الحاصل هو مرحلي وليس حلا جذريا، يرى عمر أن “الحل الجذري يبدأ من خطط إصلاحية وإعادة الثقة الخارجية بالمالية العامة اللبنانية من أجل استقطاب دولارات جديدة خارجية سواء عبر الاستثمارات الأجنبية أو الودائع الأجنبية في المصارف اللبنانية أو الاستدانة من الأسواق المالية العالمية او تحويلات العاملين في الخارج. وسنشهد ارتفاعا مجدداً للدولار مقابل الليرة إلا إذا بدأ المرشحون للانتخابات النيابية المقبلة استعمال الدولار في هذه المرحلة للتأثير على الناخبين، ولكنه سينتهي أيضاً مع انتهاء عملية الانتخابات”.
من جهته، أعاد الخبير المصرفي الدكتور نسيب غبريل التذكير بالاسباب التي أدت الى وصول سعر الدولار الى ما بين 20 ألفا و21 ألف ليرة، فأشار الى أنه “في أوائل كانون الاول من العام 2021 تراجع سعر صرف الليرة في السوق الموازية بشكل سريع حتى وصل سعرها مقابل الدولار الى نحو 32 ألف ليرة، لذلك أصدر مصرف لبنان في منتصف كانون الاول التعميم 161 في محاولة منه للجم تدهور سعر صرف الليرة في السوق الموازية ولتحويل الطلب على الدولار من السوق الموازية الى منصة صيرفة من خلال المصارف التجارية، وتاليا كان الاقبال كثيفا على سحوبات الودائع بالدولار النقدي بما أدى الى انخفاض كوتا الدولار للمصارف في مصرف لبنان الذي أصدر في أول السنة الجارية قرارا بالاتفاق مع رئيس الحكومة ووزير المال يسمح للمصارف بأن تشتري دولارات نقدية من مصرف لبنان من دون أي سقف بالليرات النقدية، كما يسمح للمصارف بأن تبيع لزبائنها دولارات من دون اي سقف على سعر صرف منصة صيرفة”.
هذه الاجراءات أدت وفق ما قال غبريل الى “تراجع سعر صرف الدولار في السوق الموازية بسبب: أولا تحويل الضغط على منصة صيرفة، وثانيا سحب سيولة الليرة من السوق بما أدى الى تقليص الهامش بين سعر الدولار على منصة صيرفة والسوق الموازية الى درجة انه لم يعد ثمة اي هامش بين السعرين، وتاليا أصبح هناك نوع من استقرار لسعر صرف الدولار، فيما اصبح المعيار لسعر صرف الدولار على سوق المنصة بعدما كانت السوق الموازية هي المعيار”.
هذه الاجراءات، وإنْ ادت الى استقرار سعر الصرف، ولكن “الجميع يعرف أنها ليست حلولا جذرية للمدى الطويل بل هي اجراءات موقتة وموضعية للجم تدهور سعر صرف الليرة في السوق الموازية وسحب السيولة بالليرة اللبنانية من السوق، وما تجديد العمل بالتعميم 161 مرات عدة وإمكان تجديده شهرا اضافيا إلا دليل على ذلك”. وفي الانتظار يسأل غبريل عن خطة التعافي الاقتصادية، داعيا الى “عدم المماطلة بتنفيذها ووضع آلية لتوحيد أسعار الصرف المتعددة والذهاب الى طاولة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بهدف الوصول الى اتفاق تمويلي اصلاحي قبل الانتخابات النيابية”.
وإذ أكد أن “مصرف لبنان هو الجهة القادرة حاليا على التدخل في السوق في غياب أي اجراء اصلاحي وعدم وضوح الرؤية لخطة التعافي الاقتصادي والاتفاق مع صندوق النقد”، سأل غبريل: “الى متى يمكن أن يستمر مصرف لبنان بهذه الاجراءات؟ فهو، أي مصرف لبنان، وإن لم يكن يستخدم التوظيفات الالزامية، بيد أنه يستخدم جزءا من احتياطاته لتأمين الدولارات النقدية”.
المصدر : النهار