كتبت سلوى بعلبكي في” النهار”:
5 شروط مسبقة وضعها صندوق النقد الدولي في اتفاقه المبدئي مع الحكومة اللبنانية للحصول على تمويل بقيمة نحو 3 مليارات دولار على امتداد 46 شهرا. والشروط الخمسة هي: التدقيق في مصرف لبنان، إقرار قانون “الكابيتال كونترول”، موافقة مجلس النواب على قانون موازنة 2022، إقرار تعديلات بنيوية على قانون السرية المصرفية، وقانون إعادة هيكلة المصارف. ولعل أهم هذه الشروط هو موافقة الحكومة على استراتيجية إعادة هيكلة المصارف، والإقرار بخسائر القطاع المصرفي ومعالجتها وتوزيعها على الأطراف المعنية بالأزمة، أي ثالوث الدولة، مصرف لبنان، والمصارف، وهو ما ستبحثه الحكومة في جلسة يعقدها مجلس الوزراء اليوم.
وإذا كان كلام الأمين العام السابق لجمعية المصارف الدكتور مكرم صادر عن أن “طروحات إعادة هيكلة القطاع المالي ستأتي حكماً على حساب مساهمي المصارف وكبار المودعين، وفي مصلحة مصرف لبنان والدولة اللذين يخرجان بمكاسب، بينما تخرج المصارف ومودعوها بمثالب”، فإن الاجتماع الاخير الذي عقده وفد من صندوق النقد برئاسة أرنستو راميريز مع مجلس ادارة جمعية المصارف جاء ليؤكد المؤكد. فقد فاجأ راميريز الجمعية بموقف حازم بأن على جميع المصارف احتساب رساميلها كاملة من ضمن الخسائر التي ستتحملها اداراتها ومساهموها، وطلب منهم اعادة تكوين رؤوس اموال مصارفهم بالنقد الجديد “فريش”، ملمّحا الى ان معظم المصارف ومساهميها يمتلكون احتياطات نقدية وعينية خارج لبنان كسبوها من شراكاتهم في الهندسات المالية مع مصرف لبنان، وهي كافية لإعادة تكوين رأسمال جديد لكل مصرف. وإذا كانت هذه الشروط ضرورية للمصارف التي تريد المحافظة على وجودها في السوق اللبنانية، بيد ان الانقسام كان واضحا بين اعضاء مجلس ادارة الجمعية. فمنهم مَن رفضوا أن تتحمل المصارف اي خسائر في رساميلها مصرّين على تحميلها للدولة، أما الباقون فكانوا أكثر واقعية بدعوتهم الى التريث والسعي الى مزيد من المفاوضات للاتفاق على الحد الأدنى الممكن من الخسائر. وفي حال تمنّع اي مصرف عن اعادة تكوين رأسماله من جديد، فإنه بذلك يضع نفسه أمام حلّين لا ثالث لهما: إمام الدمج القسري مع مصرف آخر، وإما اشهار الافلاس، وكلاهما يعني الخروج النهائي من السوق المصرفية.
الدولة المسؤول الأول عن الخسائر؟
مع إنجاز الحكومة خطة التعافي الثانية التي حلّت محل الخطة الأولى التي طرحتها حكومة الرئيس حسان دياب، تجدد الاهتمام بموضوع توزيع الخسائر الجسيمة القائمة في القطاع المالي، والتي قدّرتها اللجنة المكلفة التفاوض مع صندوق النقد الدولي بنحو 70 مليار دولار. وبدا أن الخطة الجديدة تملك بعض فرص النجاح لأنها، على ما يبدو، تحظى بموافقة بعثة صندوق النقد وكل ما تحتاجه هو توافق القوى السياسية الرئيسية عليها، وهو الأمر الأصعب، وفق الخبير المصرفي الدكتور غسان العياش. وكما بات معلوما فإن أهم محاور الخطة – البرنامج هو الاتفاق على حجم خسائر النظام المالي في لبنان وطريقة توزيعها على الأطراف المعنية. فتحتَ تأثير الأجواء الشعبوية والحماسية التي تسود البلاد منذ انفجار الأزمة، سيطرت الأفكار الداعية إلى تحميل الجزء الأكبر من الخسائر لمودعي المصارف ولرساميلها بحجة أن أي جزء تتحمله الدولة من الخسائر يعكس تساهلاً مع المصارف وتهاوناً في حقوق الشعب اللبناني.
لكن هذا الرأي خاطىء، برأي العياش، لاعتبارات عدة، “أولها أن الدولة هي المسؤول الأول عن الخسائر، من جهة بسبب السياسة المالية الكارثية التي أدت إلى تراكم جبل الدين العام وجعله أكبر من قدرة الاقتصاد على تحمّله، ومن جهة أخرى لأن السياسة النقدية التي ساهمت مساهمة كبيرة في الأزمة هي سياسة تعكس توجهات الدولة ورغباتها وأهدافها. وقامت هذه السياسة على هدف رئيسي هو تمويل عجوزات الموازنة وتثبيت سعر الصرف بما يتناسب ومصالح الطبقة السياسية ويمنع عنها الغضب الشعبي. ولو افترضنا أن سياسة مصرف لبنان النقدية وسياسة سعر الصرف هما من انتاج المصرف المركزي، فهذا لا يخفّف مسؤولية الدولة لأن المصرف وإنْ كان مستقلا فهو فعليا جزء من القطاع العام والدولة قانوناً مسؤولة عن خسائره. كما أن قانون النقد والتسليف سلّح الحكومة عبر وزارة المال بوسائل الرقابة على مصرف لبنان، وهي رقابة تمكّنها من معرفة أدق التفاصيل عن عمل المصرف وبنيته المالية، ناهيك عن واجب الدولة الأخلاقي والقانوني في متابعة سياسات المصرف المركزي ومناقشتها دائما مع المصرف نفسه وتزويده ملاحظات الحكومة عليها. بدلا من ذلك، فقد تخلت الحكومات المتعاقبة عن هذا الدور وتركت المصرف من دون أي رقابة أو توجيه طالما أنه يؤمّن تمويل عجز الموازنة وتثبيت سعر الصرف”.
من أبرز الأخطاء الشائعة في لبنان اليوم اعتبار خلاصة الموقف الوطني هو تجاهل مسؤولية الدولة وتحميل عبء المشكلة لمودعي المصارف والمساهمين فيها. فبرأي العياش “هذا ظلم مزدوج للمودعين والمساهمين، فبعدما خسروا أموالهم تريد الدولة من خلال خطط التعافي جعلهم يدفعون ثمن الخروج من الأزمة”.
إعادة الهيكلة… صعبة المنال!
“الحديث عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي إستنادا إلى الكتب وعلماء المال لن يجدي نفعا”، وفق خبير المخاطر المصرفية والباحث في الإقتصاد محمد فحيلي، فبرأيه أن “إنقاذ الكيان المصرفي اللبناني، يدفعنا باتجاه تنظيم العلاقة بين المصارف وعملائها لتيسير أمور الناس في تسديد فاتورة الإستهلاك للأفراد والعائلات وفاتورة المصاريف التشغيلية للمؤسسات التجارية لتفادي الإختناق الإقتصادي. وهناك كمّ من الفوائد في التخفيف من الإعتماد على الأوراق النقدية في عملية تسديد هذه الفواتير. من المبكر الحديث عن إعادة الهيكلة، التي تفرض اللجوء إلى الدمج والإستحواذ، لأن متطلباتها لجهة استقطاب وضخ رأسمال جديد صعبة المنال في ظل غياب الثقة”. أما إنعاش المؤسسات المصرفية، فيتطلب وفق فحيلي “ترميم الثقة وإعادة النشاط إلى المؤسسات المصرفية. يجب أن تكون الصدقية والشفافية وفتح خطوط التواصل بين المصارف وعملائها الركائز الأساسية لهذه المرحلة. ولا يخفى على أحد أن العديد من الإجراءات والضوابط التي أدخلتها المصارف وفرضتها في المرحلة الأخيرة أُسقِطت فجأة على عملائها وأتت مخالفة للقوانين. هذه المساعي ضرورية لتحضير الأرضية للعودة إلى أحكام التعميم الأساسي لمصرف لبنان الرقم 154 – “إجراءات استثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف العاملة في لبنان” – والسهر على حسن الإمتثال لكل مواده. لم يكن عدم متابعة حسن امتثال المصارف لأحكام هذا التعميم تقصيرا من لجنة الرقابة على المصارف، بل السبب الأساسي هو عدم توافر المناخ للإمتثال لأحكام هذا التعميم. الوضع الإقتصادي والمالي والنقدي في لبنان هو أشبه برمال متحركة تغرق فيها المصارف مع كل حركة. الإنقاذ والإنعاش هما أمران أساسيان في تأمين الجهوزية المصرفية لإعادة الهيكلة”.
وليس جديدا القول إن إعادة العافية للقطاع المصرفي توفر المناخ للحديث عن الخلل والفشل في أداء بعض المؤسسات المصرفية، وعن كيفية المعالجة من دون تداعيات سلبية قد تزيد الأمور تعقيدا. ويؤكد فحيلي أن “استعادة الثقة وتوافر رأس المال سيشكلان ضرورة لانطلاق الحديث عن مصارف مفلسة ويجب تصفيتها، وأخرى بين هالكة ويجب إعادة هيكلتها ودعمها من جراء ضخ رأسمال جديد أو دمجها مع مصارف أخرى. ومن المؤكد أن ثمة مصارف متمكنة من خدمة الإقتصاد. واستقطاب رأسمال جديد يساعد في إعادة رسملة المصارف وتأمين جهوزيتها لمواكبة الإصلاح والنهضة الإقتصادية، ومتابعة امتثال المصارف لأحكام التعميم 154 واتخاذ الإجراءات اللازمة وفق أحكام هذا التعميم تصبح ضرورية في هذه المرحلة، مع مواكبة جدية لاستقطاب رأسمال جديد من الخارج والعمل، بما توافر، على إعادة رسملة المصرف المركزي”.
تطور القطاع المصرفي والنمو الإقتصادي هما وجهان لعملة واحدة. فتطور الخدمات المصرفية يجب أن يعكس حجم النشاط الإقتصادي وطبيعته في البلد، وفق ما يقول فحيلي، ويضيف: “بعد سنتين على التدهور الإقتصادي الحاد أصبحنا اليوم على مصارف من دون خدمات مصرفية إنحصرت بأغلبها بالسحوبات الإستثنائية. إذا انتقلنا وتقدمنا بنجاح في المراحل الثلاث الأُوَل – إنقاذ، إنعاش، وعافية – هذا يعني أننا نجحنا بتأمين المناخ المطلوب للتطور المصرفي والنمو الإقتصادي، ويجب ترك الأمور في هذه المرحلة على طبيعتها مع متابعة المراقبة والشفافية والموضوعية في تحديد المشاكل ومقاربة الحلول”.
المصدر : النهار