كتبت سلوى بعلبكي في “النهار”:
ليس خافياً أن السياسة التي يتبعها صندوق النقد الدولي في خططه للدول المتعثرة، هي أنه قبل الشروع بتطبيقها أو التفاوض عليها مع السلطات المعنية يشترط “إشراك أصحاب الحقوق” أي الشرائح الاجتماعيّة المتأثرة بها، وإجماعهم عليها.
وعلى الرغم من السرية التي تحيط بالخطة الحكومية بغية تأجيل النقمة الشعبية وفرضها لاحقاً كأمر واقع بعد إنجاز التفاهم مع الصندوق، يأتي النص المسرّب للخطة الحكومية العتيدة ليكشف المستور، إذ تبين أنها تهدف إلى تحميل المودعين الجزء الأكبر من خسائر القطاع المصرفي، عبر مجموعة من الإجراءات المجحفة بحقهم. وقد رفضت جمعية المصارف هذه الخطة التي اعتبرتها “كارثية ومخالفة للدستور اللبناني ولسائر القواعد القانونية المرعية الإجراء، جملة وتفصيلاً، وقد كلّفت مستشاريها القانونيين دراسة وعرض مروحة الإجراءات القضائية الكفيلة بحماية وتحصيل حقوق المصارف والمودعين توخياً للمباشرة بما تراه مناسباً منها في هذا الصدد.
وإذا كانت بعض الجهات تعتبر أن الاعتراض على الخطة “تصعيد شعبوي” قبيل الانتخابات النيابية في 15 أيار المقبل، وإقرارها مع “الكابيتال كونترول” قبل الانتخابات سيشكل مأزقاً للحكومة وللنواب الذين يسعون لولاية ثانية. بيد أن الخطة هي أساس الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإسقاطها أو تعديلها قد يطيح الاتفاق المبدئي الذي أمن للبنان 3 مليارات دولار لمساعدته على الخروج من الأزمة الاقتصادية.
تؤكد خطة الحكومة التي يتم التداول بها ضرورة تحجيم النظام المالي وإعادة رسملته، مع الإشارة إلى أن إعادة رسملة النظام المصرفي تزيد عن 72 مليار دولار وهي خسائر لم توضع في الحسبان. وقد انطلقت مسيرة تحجيم القطاع المصرفي منذ أكثر من سنة بتقليص عدد فروعه وخدماته والخروج من أسواق خارج لبنان وصرف موظفين من الخدمة. ووفق الخبير المصرفي محمد فحيلي فإن الطرف الوحيد الذي يرفض حتى اليوم التأقلم مع المتغيرات الاقتصادية هي الدولة. ما زالت على حجمها ودائماً مستعدة لإقرار إضافات على الرواتب ومساعدات مالية لموظفيها مع العلم بأنها متعثرة عن تسديد كل التزاماتها. المطلوب من الدولة، أولاً وآخراً، الاهتمام بشؤونها والشروع بإعادة هيكلة وجدولة الدين العام بشقيه اللبناني والأجنبي.
أما بالنسبة لإعادة الثقة بالقطاع المصرفي، فيعتبر فحيلي أن هذا الأمر يأتي من جراء إعادة الحياة إليه من خلال تنظيم العلاقة بين المصارف وزبائنها، والعودة إلى العمل بالشيكات والبطاقات المصرفية (بطاقات دفع وائتمان بالليرة اللبنانية)، وهو مؤشر أساسي للنجاح في ترميم الثقة هو عندما تتحول زيارة العميل إلى المصرف من مصدر “همّ” إلى مصدر “اهتمام”.
وتلحظ الخطة الموافقة على مشروع قانون ضوابط رأس المال وحلول السحوبات النقدية…”، ولكن فحيلي يرى أن “رؤوس المال هرّبت بدليل تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 154 الذي اعترف بكثافة هروب رؤوس الأموال من تموز 2017… لذا فإننا اليوم لسنا بحاجة إلى ضوابط، ما يحتاجه الاقتصاد اللبناني هو انفراجات لتفادي الاختناق الاقتصادي”.
وفي نظرة سريعة على ما يملكه لبنان وقدراته الاقتصادية رغم كل المعاناة في السنتين الماضيتين، يشير فحيلي إلى الآتي:
الناتج القومي، وهو جزء من ثروات الوطن، وفق تقارير البنك الدولي يقدر بـ 20 مليار دولار.
إجمالي الإستيراد أصبح يقدر بـ 7 مليارات دولار وتقلصت حاجة لبنان إلى الدولار لتسديد فاتورة الاستيراد.
تحويلات لبنان الاغتراب إلى لبنان المقيم هي نحو 7 مليارات دولار سنوياً إضافة إلى ما يتم تسليمه بأيدي اللبنانيين.
التوظيفات الإلزامية للمصارف لدى مصرف لبنان تقدر بما يقارب الـ 10 مليارات دولار.
حقوق لبنان من السحب الخاص التي وصلت إلى لبنان من صندوق النقد الدولي نحو 1.135 مليار دولار وتم استخدام 83 مليون دولار فقط حتى اليوم.
أرصدة المؤسسات المالية المقيمة لدى المصارف غير المقيمة قد تصل إلى 6 مليارات دولار.
الودائع في المصارف التجارية وصلت إلى ما يقارب الـ 100 مليار دولار، من بينها نحو 80 ملياراً ودائع بالعملة الأجنبية، ونحو 25 مليار دولار لغير المقيمين. فحيلي يعتبر أنه من الممكن توظيف هذه الأرصدة لتوفير السيولة محلياً من خلال استعمال وسائل الدفع المصرفية (Bank Money) من شيكات وبطاقات دفع (Debit) وائتمان(Credit) وتحويل (Transfer) وليس أوراق نقدية (Fiat Money). و”هذا ممكن من خلال إعادة تدوير السيولة بين المصارف. تقنيات العمل المصرفي،
بالتعاون مع السلطة النقدية، تسمح باستعمال الأرصدة الموجودة بالحسابات المصرفية، من دولار وليرة لبنانية، لتمويل فاتورة الاستهلاك للأفراد وفاتورة المصاريف التشغيلية للمؤسسات”.
أسطول طائرات شركة طيران الشرق الأوسط هو 18 طائرة Airbus نخبة.
حسب بيانات “مجلس الذهب العالمي” بنهاية كانون أول 2020 بلغ احتياطي لبنان من الذهب نحو 287 طناً تبلغ قيمتها نحو 18 مليار دولار.
ما يخزنه اللبنانيون في الخزانات الحديدية من أوراق نقدية في منازلهم يقدر بـ 10 مليارات دولار.
ثمة أصول أخرى للدولة تقدر بمليارات الدولارات.
الكثير من ديون الأفراد والمؤسسات لدى المصارف اللنانية تم تسديدها بالكامل خلال السنتين الماضيتين، ولا ديون جديدة.
ماذا يعني كل ذلك؟ برأي فحيلي أنه “من الممكن استثمار كل هذه القدرات لإنقاذ لبنان، ونعم نحن بحاجة إلى أكثر من مما هو متوفر اليوم للنمو الاقتصادي، ولكن ماهو مطلوب اليوم وضروري هو “الإنقاذ” ووقف النزيف وليس “النمو”. فلبنان ليس مفلساً وليس بحاجة إلى كم هائل من المساعدات المالية لإنقاذه وإنعاشه وإعادة الحياة إليه؛ وهذا هو عنوان المرحلة اليوم. الدولة ليست بحاجة لكي تتباكى وتتلطى وراء شطب ديون الجميع كوسيلة وحيدة لإنقاذها”.
هل من بديل؟ يقول فحيلي “إذا وجدت الإرادة لإقرار وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة بمصداقية وجدية والتزام، لن يكون لبنان عندها بحاجة لأي شيء سوى إعادة هيكلة الدين العام وإلى التوزيع الزمني للخسائر وفق استحقاقها، وفق ما يقول فحيلي. فالحكومة تعتبر أن المنعطف الحالي يستلزم حزمة تدابير صارمة، ويتمثل الهدف الأساسي”في تعزيز النمو الاقتصادي وخلق الوظائف وتعزيز الإنتاجية في كافة القطاعات الاقتصادية…”، معتبراً أنه يجب التركيز على تمكين الأفراد والأسر، المكون الاقتصادي الأساسي، على الاستمرار في الإنفاق. وفي المقلب الآخر، تمكين المؤسسات والمصانع من استمرارية العمل بتعزيز قدراتها على تسديد فاتورة المصاريف التشغيلية. الكلام اليوم عن نمو اقتصادي وتوفير وظائف وتعزيز الإنتاجية هو للاستهلاك الإعلامي والسياسي، لأن اقتصاد لبنان اليوم منكوب ويجب إنقاذه أولاً ثم إنعاشه ومن ثم تطويره؛ ودائماً يجب أن يواكب الإنقاذ الاقتصادي إصلاح سياسي مع التركيز على السياسات المالية، لافتاً إلى أنه “في ظل الظروف التي يعيشها الاقتصاد اللبناني من صعوبة قاتلة في تأمين الطاقة وهجرة الأدمغة، من السذاجة الحديث عن اقتصاد المعرفة”.