كتبت سلوى بعلبكي في” النهار”:
“كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ / والماء فوق ظهورها محمول”… تشدّ دولتنا رحالها شرقاً وغرباً وبنكاً وصندوقاً دولياً، وتطرق كل باب ترى فيه بوادر مساعدات ومنح، و”تكسر يدها” و”تشحد” حتى ثمن حبة الحنطة لإطعام مواطنيها… لكن المفارقة هي أنه حيثما يجب ان تجمع وتجبي ما لها من حقوق عند المواطنين ورسوم محققة أو قيد التحقق، تتخامل وتتقاعس.
مناسبة الكلام: “إغماض” غير مبرر لعيون الدولة واستهتارها ولا مبالاتها بوجوب تحصيل أو فتح باب تحصيل أمام إيرادات محققة في واحدة من أكبر مصادر تمويل مالية الدولة، هي دائرة مصلحة تسجيل السيارات المقفلة بشكل كامل منذ أكثر من شهر، بما يضيع على خزينة الدولة مليارات الليرات يوميا من رسوم تسجيل السيارات والميكانيك ورخص السوق وغيرها. يحدث كل هذا من دون أن يرفّ جفن لأي مسؤول، أو شعور بالمسؤولية تجاه الدولة من جهة، ومصالح المواطنين وتجار السيارات الذين تتعرقل أعمالهم واشغالهم، فيما بعض المواطنين يقودون سياراتهم بطريقة غير قانونية لعدم قدرتهم على تسجيلها أو عدم تمكنهم من الاستحصال على دفتر سَوق قانوني.
أكثر من شهر تعطيل شامل، وذلك بعد سنتين من شبه توقف بسبب جائحة كورونا والاضرابات وتطبيق نصف الدوام الذي لجأت اليه الدولة ابان أزمة البنزين. فمن المسؤول؟ ومن ينقذ قطاع السيارات الذي يتضرر بشدة من اقفال هذا المرفق الحيوي؟ ومن يتحمل مسؤولية تراكم رسوم الميكانيك على المواطنين… والأهم مَن المسؤول عن ضياع آلاف المليارات من الليرات على الدولة بسبب الاهمال وعدم المبادرة الى ابتداع حل فوري للمشكلة في وقت أحوج ما تكون فيه الدولة الى كل فلس تستطيع جبايته لتتمكن من اعالة نفسها بدلا من التسكع على ابواب مصرف لبنان وسلب احتياطه من اموال المودعين، أو “الشحادة” من الدول الصديقة أو المؤسسات الدولية؟
منذ 7 نيسان الماضي، أعلنت هيئة ادارة السير أو ما يُعرف بمصلحة تسجيل السيارات في الدكوانة، التوقف عن القيام بالمعاملات الادارية بسبب نفاد الايصالات المالية التي تعطى للمواطنين عند تسجيل اي سيارة، اضافة الى النقص في الكثير من المواد والمستلزمات الادارية.
الرئيسة والمديرة العامة لهيئة إدارة السير والآليات هدى سلوم أكدت لـ”النهار” أن الهيئة “تحاول جهدها لازالة المعوقات التي أدت الى الاقفال، ولكن كله متوقف على قرار من مجلس الوزراء لإصدار مرسوم لنقل اعتماد من احتياط الموازنة لكي يكون في مقدورنا شراء الايصالات المالية من مديرية الشؤون الجغرافية التابعة للجيش اللبناني، اضافة الى مرسوم آخر يتعلق بسلفة كمساعدة اجتماعية للموظفين”.
ولكن جدول اعمال مجلس الوزراء الذي سيعقد جلسته الاخيرة غداً قبل الانتخابات النيابية الاحد المقبل، خال من أي بند يتعلق بمصلحة تسجيل السيارات، الا اذا بادر رئيس الجمهورية وطرح الموضوع من خارج جدول الاعمال وفقا للصلاحية الممنوحة له. وفي حال لم يحصل ذلك، يبقى الامل، وفق سلوم، أن يُدرج على جدول اعمال الجلسة التي ستعقد بعد الانتخابات النيابية والتي قد تكون آخر جلسة لمجلس الوزراء قبل تحوله الى تصريف الاعمال… “فالامور لم تعد تحتمل أي تأجيل”.
وفي التفاصيل، تشرح سلوم المشكلة بالقول: “حاولنا قدر المستطاع تدبير أمورنا بطلب ايصالات من ادارات الدولة الاخرى، ولكن فشلنا أخيرا بعدما أصبح حال الادارات العامة كحالنا ولم يعد هناك من ايصالات كافية، علما أن المصلحة تحتاج يوميا الى نحو 20 صندوقا (الصندوق الواحد يحوي نحو 500 ايصال)”.
الى ذلك، “ثمة مشكلة تتعلق بتأمين المازوت الذي لم يعد متوافرا حتى من الهبات التي كانت تصلنا من الجمعيات مثل جمعية مستوردي السيارات واصحاب معارض السيارات”، وفق سلوم التي تؤكد “أننا وصلنا الى وقت لم نعد نستطيع تأمين هذه المادة من أي مصدر”.
ولا تقتصر المشكلة على الايصالات، إذ تشير سلوم الى أن “الشح يطاول ايضا دفاتر السوق والسيارات وغيرها من المستلزمات الادارية”. ولكن المشكلة الاكبر برأيها هي في “رواتب الموظفين التي لا تزال على حالها، وهذا يعتبر ظلما في حقهم في ظل الارتفاع الكبير في الاسعار، علما أن المساعدة الاجتماعية التي أقرت أخيرا لجميع العاملين في القطاع العام لا تطبق علينا كوننا لسنا ادارة عامة”، مشيرة الى أن “الهيئة كانت تحصل على مساهمة بنحو 30 مليار ليرة من وزارة الداخلية، فطلبنا زيادتها الى 45 مليار ليرة، ولكن تفاجأنا بأنهم سيخصصون لنا 5 مليارات ليرة لسنة 2022”. ولفتت الى ان “ايرادات المصلحة تذهب مباشرة الى صندوق وزارة المال، وقد قدرت العام الماضي بنحو تريليون ليرة من ضمنها ايرادات الارقام المميزة التي تبيعها المصلحة”.
واذا كانت الدولة لا تأبه للايرادات الفائتة من هيئة إدارة السير والآليات، فإن قطاع السيارات بدأ برفع الصوت والتلويح بالتصعيد بسبب توقف اعماله والخسائر اللاحقة به.
وأكد مستشار جمعية مستوردي السيارات في لبنان سليم سعد لـ”النهار” ان “حركة المبيع في القطاع متوقفة كليا، بما يعني خسائر بملايين الدولارات”… لافتا الى أن القطاع “يدرّ ايرادات كبيرة على خزينة الدولة، ففي عام 2020 تم تسجيل 6152 سيارة، فيما بلغت رسوم التسجيل التي دفعناها نحو 10 ملايين دولار، ورسوم الميكانيك نحو مليون و450 ألف دولار”.
واذا كانت جمعية مستوردي السيارات الجديدة لم تتحرك ميدانيا حتى الآن، يبدو ان جمعية مستوردي السيارات المستعملة ستلجأ الى التصعيد عبر تحرك تقوم به الساعة العاشرة صباح اليوم أمام “النافعة” في الدكوانة. ويؤكد النقيب ايلي قزي أن هذا التحرك “سيشمل كل تجار السيارات في المناطق وكذلك معقبي المعاملات، فالأزمة كبيرة وتطاول كل ما يتعلق بشؤون السير من دفاتر السوق وتسجيل السيارات والشاحنات والميكانيك. عدا عن ذلك فإن تجار السيارات يتكبدون خسائر فادحة، بدليل أن المعارض أصبحت خالية من أي زبون، حتى ان الذين سبق لهم ان دفعوا دفعة أولى من ثمن السيارة يطالبون باستردادها”. وقال قزي: “لم ندع باب وزارة من الوزارات المعنية إلا طرقناه لمعالجة المشكلة في مصلحة تسجيل السيارات، ولكن كل طرف كان يحيلنا الى طرف آخر، الى ان أحالوا الامر في نهاية المطاف الى مجلس الوزراء الذي سيعقد جلسة غدا… وفي حال لم يتطرق الاخير الى الموضوع فإن ذلك يعني ان الامور ستؤجل الى ما بعد الانتخابات النيابية والرئاسية… وهذا ما لا نقبله كقطاع سيارات. لذا نتمنى عليهم ألّا يقحمونا في مشاريعهم السياسية والمحاصصة التي درجوا على اعتمادها، فنحن لن نكون لقمة سائغة، ولن نقبل أن تقفل مصالحنا بسبب استهتارهم”.
أحد مستوردي السيارات زياد قسيس يشرح لـ”النهار” المعاناة التي تواجه التجار بسبب توقف مصلحة تسجيل السيارات عن العمل: “عندما يستورد التاجر سيارات من الخارج يتطلب وصولها الى لبنان نحو 3 أشهر أو 4 أشهر، في هذا الوقت يكون قد باع عددا من السيارات في لبنان تمكنه من تجميع سيولة تساعده في دفع الرسوم الجمركية للسيارات المستوردة”. لكن، و”لأن الازمة في مصلحة تسجيل السيارات طالت، وقع التاجر في مأزق خصوصا ان الكثير من الزبائن عدلوا عن رأيهم، وبدأوا يطالبون بالدفعة التي دفعوها مسبقا”. ويتابع: “المشكلة الاكبر أن السيارات التي استوردها التجار بدأت تصل الى المرفأ من دون ان يكون في امكانهم دفع المصاريف من شحن ورسوم وتصليح لعدم توافر السيولة لديهم”.
وإذ قدّر عدد السيارات المباعة والتي تنتظر تسجيلها بنحو 5 آلاف سيارة، استغرب قسيس “ألّا تحرك شركات السيارات الجديدة ساكناً”، وسأل: “كيف يمكنهم بيع السيارات من دون تسجيلها؟”.