كتب محمد وهبة في” الأخبار”:
خلال شهرين ونصف شهر قفز سعر الدولار مقابل الليرة في السوق الحرّة، من 20500 ليرة في مطلع آذار إلى 30 ألف ليرة أمس، أي بزيادة نسبتها 50%. ومنذ نهاية نيسان لغاية اليوم، ارتفع سعر الدولار 12.5%، وفي اليومين الأخيرين بنسبة 8.9%. هذه القفزات، ولا سيما في اليومين الأخيرين لم تكن مفاجئة، بل كانت ارتفاعاً تدريجياً ضمن مسار ثابت، وكانت مرتقبة أيضاً لأنها تغذّت على سلوك مصرف لبنان الذي خلق التوقّعات بالمزيد من الارتفاع مستقبلاً. فمن المقولات الرائجة في هذا المجال، أن «التوقعات تحقّق ذاتها»، لكن لا يحصل ذلك بواسطة القدر، بل لأن المسارات المرسومة سابقاً تترجم إلى توقعات تتحقّق بقوّة المسار نفسه. هذا بالتحديد ما يحصل حالياً. فالمسار الذي خلقه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بالتعاون الوثيق والتغطية الواسعة من قوى السلطة، هو المسار الوحيد الساري المفعول منذ الانهيار لغاية اليوم. ركائز إدارة سلامة للأزمة قامت على الإنكار، وإجراءات الضبط الملتوية، ورشوة الجماهير. الإنكار هو السمة شبه الدائمة لغاية اليوم، أما الإجراءات فبدأت في أيلول 2019 مع دعم استيراد المحروقات والقمح والأدوية والمستلزمات الطبية، ثم لاحقاً المواد الغذائية ومواد أولية للزراعة والصناعة. كذلك تضمّنت الإجراءات دفع بعض الودائع على سعر صرف 3000 ليرة، ثم تسديد قسم آخر على سعر صرف 3900 ليرة، ثم تسديدها على سعر صرف 8000 ليرة، فضلاً عن سقوف السحوبات بالليرة وبالدولار… ومن الإجراءات أيضاً رفع الدعم، وتسديد قسم من الودائع بالدولار عبر التعميم 158 مموّلة مناصفة بين المصارف ومصرف لبنان، وعبر تحويل نصفها إلى الليرة على سعر صرف يبلغ 12 ألف ليرة. في هذا الوقت، صدرت إجراءات تتعلق بفرض زيادة رساميل المصارف وتكوين احتياطات خارجية بالدولار بنسبة 3% من الودائع بالعملات الأجنبية… وصولاً إلى التعميم 161.
هذا التعميم هو أحدث منتجات رياض سلامة ومجلسه المركزي. هو تعميم صدر لمدّة شهر واحد في 16 كانون الأول وقضى بضخّ الدولارات للعموم بواسطة المصارف ضمن كوتا محدّدة لكل منها وفق سعر «صيرفة». وفي 11 كانون الثاني عُقد اجتماع برئاسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مع وزير المالية يوسف الخليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وصدر بيان عن المجتمعين يشير إلى أن سقف العمليات في إطار تطبيق هذا التعميم هو مفتوح بلا «كوتا». ومن وقتها ولغاية مطلع آذار، سجّل سعر الدولار مقابل الليرة في السوق الموازية مساراً انحدارياً تدريجياً ليستقرّ السعر ضمن حدود 20 ألف ليرة. إلا أن مصرف لبنان، ومن دون إصدار أي تعميم، قرّر من وقتها وقف العمليات المفتوحة بلا «كوتا»، وعاد إلى تحديد «كوتا» لكل مصرف. شعر السوق بالأمر. فبعدما كانت عملية استبدال الليرات بالدولارات في اليوم نفسه، أو في اليوم التالي، أصبح الأمر يتطلب بضعة أيام، ما دفع سعر الدولار إلى المسار المعاكس للانخفاض. وعاد الارتفاع التدريجي، مع فترات استقرار قصيرة وهشّة على وقع تسريبات من المجلس المركزي ومن مصرفيين تفيد بأن دعم سعر الليرة سيستمر لغاية الانتخابات فقط.
بهذا المعنى، كان المسار واضحاً. فالأزمة مستمرّة بلا علاج، فيما إدارتها ما زالت بيد الجهة نفسها أي مصرف لبنان الذي تعامل مع دعم الليرة اعتباراً من نهاية السنة الماضية، باعتبارها محطّة شهرية، وبسقف مفتوح في البداية، ثم ضمن «كوتا» محدودة بدأت تضيق شيئاً فشيئاً (أي أن مصرف لبنان قلّص ضخّ الدولارات تدريجاً بالتزامن مع ارتفاع سعر الدولار التدريجي). لذا، كان من المنطقي، بالنسبة إلى المصرفيين، والمضاربين، والتجار، وسائر ما كان يحق له شراء الدولار على سعر صيرفة من المصرف وبيعه في الخارج بسعر السوق الحرّة للاستفادة من هوامش الفروقات بينهما، أن يتوقع أن الارتفاع آتٍ لا محالة.
التوقعات بارتفاع الدولار تحقّقت لأنه لم يحصل ما يعكسها في نتائج الانتخابات
خلق هذا الأمر توقعات بأن التوقيت هو الانتخابات النيابية، لكن لم يكن أحد يعلم الساعة الصفر تحديداً. وهذه الضبابية تغذّت على أفكار روّج لها بانتظام متصلة بإعادة تسديد الودائع، أو إعادة تكوينها من دون أي تفسيرات واضحة لما تعنيه. فالودائع لم تعد موجودة أصلاً، أما إعادة تكوينها فأمر مستحيل بعملتها الأصلية، أي بالدولار، إلا من خلال دولارات عائدة لناس آخرين يتم استقطابها إلى النظام المصرفي مجدداً، أو من خلال تحويلها إلى ليرات تغذّي تضخّم الأسعار المتسارع ثم المفرط.
وجاءت الانتخابات النيابية وسط صراع سياسي استبعدت عنه الأزمة الأساسية المتصلة بالانهيار ومفاعيله وتوزيع الخسائر. ولم يصل النقاش في هذه المسائل أبعد من ذلك، أي أنه لم يتجاوز مرحلة توزيع الخسائر للنقاش في مرحلة النهوض، وهذه مسألة لم تتم مقاربتها في أي من الطروحات الانتخابية؛ قوى السلطة تلطّت وراء توازناتها المحليّة والإقليمية والدولية، بينما أطلقت القوى التي تدّعي التغيير «نتفاً» من شعارات لا سياق لها وخارجة عن أي برنامج أو رؤية. هكذا أصبح التوقيت مرتبطاً بيوم الانتخابات تحديداً. فقد كان لافتاً أنه خلال اليومين التاليين ليوم 15 أيار، قفز الدولار بقيمة ثلاثة آلاف ليرة من دون أي مبرّر واضح. لكن الواقع، هو أن التوقعات تحققت لا لأن الكل توقّعها فحسب، بل لأنه لم يحصل ما يعكس هذه التوقعات في نتائج الانتخابات. فالتصويت كان يعبّر عن سلوك سياسي لم يؤدّ إلى تغيّرات جذرية في بنية السلطة، ولم يحمل في طياته رؤية لأي علاج يلوح في الأفق. كان مجرّد صراع على المقاعد. الرابحون ربحوا في طوائفهم، والخاسرون خسروا في طوائفهم أيضاً. أما السوق فكان ينظر إلى توقعاته السابقة باعتبارها حقائق عن انحدار متواصل لا علاج له في الأفق.