كتب علي زين الدين في “الشرق الأوسط”:
أكد مسؤول مصرفي كبير لـ«الشرق الأوسط» أن الخيارات الضيقة المتاحة أمام السلطة النقدية تحكم وبشبه حصرية تمليها مخاطر تفلت بلا سقوف للانهيار النقدي وأسعار الاستهلاك، بالاستمرار في تنفيذ قرار استعادة دورها المفصلي في إدارة السيولة النقدية بالليرة وبالدولار الأميركي، وبعدم التهاون عن تحقيق هدف تركيز الجزء الأكبر من المبادلات النقدية عبر منصة «صيرفة» وتضييق فجوة التسعير إلى حد إعادة اعتمادها كمرجعية سوقية رئيسية للمبادلات اليومية.
وإذ تتوخى المبادرة إرساء تهدئة نقدية تضمن تحصين الأمن النقدي في مرحلة حساسة متخمة بمواعيد إعادة تشكيل السلطات الدستورية فضلاً عن المتطلبات المتصلة بملف لبنان لدى إدارة صندوق النقد الدولي، فإن هذه التأكيدات تأتي مع استمرار تنفيذ عمليات التبادل النقدي عبر المنافذ المصرفية ضمن ساعات العمل المعتادة ولليوم الرابع على التوالي، بعد ختام المرحلة الأولى والمكثفة التي أوجبت فتح فروع المصارف لأربع ساعات إضافية لثلاثة أيام متتالية، بهدف التمكن من تلبية الشريحة الأكبر من الطلب المرتقب على العملة الخضراء، والتجاوب مع قرار البنك المركزي الذي يتيح لحملة السيولة بالليرة، ومهما كانت المبالغ، استبدالها بدولارات نقدية (بنكنوت) عبر منصة «صيرفة» وبسعرها المعتمد البالغ 24.5 ألف ليرة لكل دولار.
ونوّه المسؤول بأن التصدي اليومي، الصريح والفوري، من قبل مصرف لبنان أفلح في كشف زيف بعض المحاولات لإعادة تأجيج المضاربات على العملة الوطنية من خلال عرض أسعار بعضها وهمية للدولار، بدليل التهرب من اعتمادها في التنفيذ لصالح طالبيها. كما بدا فعالاً في الحد من سيطرة التطبيقات الهاتفية على عمليات التسعير، وفي الحؤول دون تعميم شائعات بوقف مبادرة التدخل القوي الذي يجري عبر المنصة، التي تم تداولها على شبكات تواصل اجتماعي تضم صرّافين وتجار عملات.
وبلغت حصيلة الموجة الأولى للتدخل، نحو 425 مليون دولار في 3 أيام، منها نحو 196 مليون دولار في اليوم الأول الذي شهد إقبالا كثيفا من قبل حملة الليرة بالتزامن مع صرف مستحقات الرواتب الشهرية للقطاع العام وإتاحة استبدالها بالدولار أيضاً. ثم تقلّص حجم الطلب إلى نحو 100 مليون دولار يومياً. وهو رقم مرشح لمزيد من التناقص ربطا بامتصاص واستيعاب أكثر من 10 تريليونات ليرة حتى الساعة، فيما يقدر أن مبالغ الكتلة المتداولة بالليرة خارج البنك المركزي تبلغ نحو 43 تريليون ليرة وفقاً لأحدث البيانات العائدة لمطلع الشهر الحالي.
وفضلاً عن التغطية المؤسسية المؤمنة من قبل المجلس المركزي في مصرف لبنان، تشير مصادر متابعة إلى تنسيق مسبق تكفل بتأمين تغطية سياسية من قبل مرجعيات القرار في السلطتين التشريعية والتنفيذية للمبادرة الهادفة أساساً إلى كبح مسلسل انهيار صرف العملة الوطنية الذي قارب 40 ألف ليرة للدولار الواحد بنهاية الأسبوع الماضي، وتمدّدت مفاعيله الدراماتيكية سريعاً إلى أسواق الاستهلاك، ومنذرة بالتسبب بصعود حاد لمنسوب القلق من حصول قلاقل تتعدى النطاق الشعبي والاجتماعي لتصيب الاستقرار الأمني الهش.
وتبعا لهذه الوقائع، يقدّر المسؤول المصرفي أن هامش المناورة ضيّق أساساً وبطبيعته أمام حاكم البنك المركزي رياض سلامة، بعدما حسم قراره وعممه ببيان رسمي حمل توقيعه، ويقضي بانطلاق مبادرة جديدة تهدف إلى الاستعادة المتدرجة لمركزية الدور في إدارة اللعبة النقدية، وضمن استهداف أبعد مدى لإيقاف مرن لمسلسل الانهيارات القياسية المتتابعة التي لحقت بالعملة الوطنية من دون هوادة على مدار نحو 32 شهراً بالتتابع.
ويلفت إلى حقيقة تبديد نحو 20 مليار دولار منذ بدء الأزمة على دعم الاستهلاك والتدخل في سوق القطع وتغطية المصاريف الخارجية للدولة وسداد مستحقات للكهرباء وأقساط لصالح مؤسسات دولية، ليتقلص إجمالي الاحتياطات الداعمة من العملات الصعبة إلى نحو 11 مليار دولار، تشمل ملياراً من حقوق السحب الخاصة المحولة من صندوق النقد، ويقابلها متوجبات تتعدى نحو 13 مليار دولار كتوظيفات إلزامية على الودائع في الجهاز المصرفي التي تفوق قليلاً مستوى 100 مليار دولار.
وشكلت خسائر النقد التي تعدت حدود 95 في المائة، أحد العوامل الرئيسية للأزمات المتفجرة في البلاد منذ خريف عام 2019، وهي أفضت ضمن نتائجها الكارثية إلى إيقاع نحو 85 في المائة من المقيمين تحت خط الفقر، بينهم أكثر من الثلث ضمن حزام الفقر المدقع وفقا لتقارير ميدانية صادرة عن مؤسسات دولية. فضلا عن ضمور الناتج المحلي الإجمالي من نحو 55 إلى أقل من 22 مليار دولار، وإلى انحسار حاد للغاية في حجم القطاع المالي والمصرفي، فيما تقدر خطة التعافي التي أعدتها الحكومة إجمالي الفجوة المالية المحققة بنحو 72 مليار دولار.
وعلى خط موازٍ، تحاول وزارة الاقتصاد، إنما من دون فعالية ملحوظة حتى الساعة، إعادة ضبط الأسعار المتفلتة في كامل منظومة أسواق الاستهلاك، وبالتالي تحقيق التماهي البديهي مع التراجع الفعلي لسعر الدولار بمقدار 10 آلاف ليرة من مستواه الأعلى الذي تم استغلاله في عمليات التسعير للسلع والمواد.
وبرز في هذا السياق، التنويه بأن مدير عام وزارة الاقتصاد والتّجارة محمد أبو حيدر، وهو عضو في المجلس المركزي لمصرف لبنان، تابع مع المعنيين في البنك المركزي، آليّة الحصول على أسماء المستفيدين من منصّة «صيرفة» لاستيراد المواد الغذائيّة. وذلك بهدف التحقق من آليّة تسعيرهم للبضائع في حال كانت على سعر «صيرفة» أم على سعر السَوق السوداء.
وتُظهِر الإحصاءات الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي المنحى الصاعد بحدة بالغة لمؤشر تضخّم الأسعار الذي حقق زيادة نسبتها 206.24 في المائة على صعيد سنوي حتى نهاية شهر أبريل (نيسان) الماضي، لتصل بذلك الحصيلة المجمعة إلى نحو 1100 في المائة للتضخم المتفلت إبان الأزمات المتواصلة في البلاد.
وقد بلغ متوسّط الزيادة السنويّة في مؤشّر تضخّم الأسعار 217.16 في المائة خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. وجاء الارتفاع السنوي في تضخّم الأسعار نتيجة تسجيل جميع مكوّنات المؤشّر زيادة في أسعارها حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائيّة والمشروبات غير الروحيّة بنسبة 374.38 في المائة (تثقيل بنسبة 20 في المائة)، ورافقها زيادة في أسعار النقل بنسبة 492.09 في المائة (تثقيل بنسبة 13.1 في المائة)، بتأثير مستمر من تداعيات غزو روسيّا لأوكرانيا ورفع مصرف لبنان لكامل الدعم عن أسعار المحروقات المستوردة. وزيادة في أسعار المسكن: الماء والغاز والكهرباء والمحروقات الأخرى بنسبة 408.55 في المائة (تثقيل بنسبة 11.8 في المائة)، وارتفاع أسعار الألبسة والأحذية بنسبة بلغت 170.09 في المائة (تثقيل بنسبة 5.2 في المائة). وذلك من دون استثناء الزيادة غير المسبوقة في أسعار المطاعم والفنادق بنسبة 320.28 في المائة (تثقيل بنسبة 2.8 في المائة).