يبدو واضحاً تماماً الإستعجال الأميركي – الإسرائيلي في حسمِ مسألة الغاز البحري في حوض البحر المتوسط، وهو أمرٌ أقحمَ لبنان في قلب ملفٍ ضاغط سيقلب المشهد رأساً على عقب.
من الناحية الإقتصادية، تسعى إسرائيل إلى تعزيز مواردها النفطية سعياً، في حين أن الأميركيين يُدركون تماماً أهمية الغاز في البحر المتوسط كنقطة قوة للتأثير على أوروبا وصولاً إلى الأميركيتين.
اليوم وأكثر من أي وقتٍ مضى، يُعدّ الغاز في البحر الملف الأكبر الذي يحتاج للحسم السريع من قبل الأميركيين، ويعود ذلك لأسباب عديدة أبرزها:
– السعي الأميركي المستمر لفرض السيطرة على مختلف حقول الغاز حول العالم، وهذا ما يبرزُ بشكل أساسيّ في دولٍ عديدة. هنا، فإنّ واشنطن تدرك أولاً أهمية تكريس نفوذها على مصادر الطاقة الأساسية باعتبار أن العصرَ اليوم يدخل على تحولات جمة بشأن الطاقة، وهناك انتقالٌ واضح من النفط إلى الغاز والطاقة البديلة. وهنا، فإنه على أساس تلك القاعدة، سيلجأ الأميركيون إلى كلّ الوسائل لضمان حقول الغاز وتحديداً في المناطق التي ترى الإدارة الأميركية نفوذاً لنفسها فيها.
– خلال العقود الماضية، كان ثابتاً أن الأميركيين والغرب يحاولون تأمين مصادر الطاقة لبلدانهم من مختلف الحقول التي يستثمرونها حول العالم، وما حقل كاريش المتنازع عليه بين لبنان وإسرائيل سوى نقطة بداية للسيطرة على الغاز في البحر المتوسط، كما أنه سيكون المُمّهد للسيطرة الأميركية على الغاز في المنطقة، وبالتالي الإستفادة من الثروات هناك، إما عبر بيعها أو استفادة أميركا منها.
– شكّلت الحرب الروسية – الأوكرانية محفزاً للإسراع في التنقيب عن الغاز في بحر المتوسط. فاليوم، تعاني أوروبا من تهديدٍ كبير من إنقطاع الغاز الروسي عنها، لاسيما أن الضخ إلى هناك يتراجع شيئاً فشيئاً. فعلى سبيل المثال، تبين أن تدفقات الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا عبر خط أنابيب “نورد ستريم” تراجعت مطلع الأسبوع الحالي.
هنا، يتبين بشكل كبير أن الأميركيين يحتاجون للضغط بشكل أكبر للاستفادة من حقول الغاز في البحر المتوسط، وذلك من أجل جعل أوروبا مستقلة تماماً عن روسيا. الخطوة الأميركية، إن تحققت، بإمكانها أن تخنق موسكو، وبالتالي ستجعل أوروبا في مأمنٍ من جهة، وتابعة للقرار الأميركي المرتبط بمصادر الطاقة.
– وفي ظلّ كل ذلك، تسعى الولايات المتحدة إلى ضرب نفوذ إيران في المنطقة عبر وسائل مختلفة، وكان ملف الغاز بمثابة عاملٍ أساسي لإضعاف دور طهران، أو بالأحرى إقصاء الأخيرة عن مشهد الطاقة في البحر المتوسط.
تُدرك أميركا جيداً أنّ دخول إيران على خطّ ملف الغاز في البحر المتوسط ستكون له عواقب كثيرة على البلدان التي تتعامل معها، وذلك بسبب العقوبات المفروضة عليها. إضافة إلى ذلك، فإنّ أميركا وإسرائيل لن تسمحان بوجود أي استثمارات إيرانية في حوض المتوسط باعتبار أن ذلك يقوّي من عوامل قوة طهران، ويعني انهاءً للنزاع السياسي القائم معها.
– وما لم يكن إغفاله أيضاً هو أنّ مفاوضات فيينا “المُتعثرة” بين طهران وواشنطن لعبت دوراً كبيراً في تسريع ملف الغاز في المتوسط. ففي الآونة الأخيرة، دخلت إيران على خطّ إمكانية تصدير الغاز الطبيعي لأوروبا، وهو أمرٌ سيساهم برفع صادراتها وبالتالي تعزيز وارداتها ودخول العملة الصعبة إليها. هنا، فإن المشهد يعني انكساراً لقدرة العقوبات الأميركية على ردع إيران، في حين أن أوروبا ستصبحُ خاضعة للنفوذ الإيراني عبر الغاز، ما يجعل الأميركيين في مأزقٍ كبير سياسياً وحتى عسكرياً.
وبسبب ذلك، تسعى أميركا لضمان مصادر غازٍ قريبة من أوروبا في المتوسط، الأمر الذي يشكل حافزاً لدول القارة العجوز في الإستغناء مجدداً عن إيران، والاستفادة من الغاز الذي سيخرجُ في حال بدأ التنقيب عنه، خلال مدة زمنية تصل إلى 6 أشهر كحدّ أقصى.
أين لبنان من هذا المشهد؟
ما يمكن قوله هو أنّ لبنان دخل مرحلة جديدة من الأزمات. فمن جهة، لا يمكنه معارضة الأميركيين باعتبار أنّ حلّ ملف الغاز بالشروط الأميركية، يمكن أن يساهم في تعزيز المساعدات الاقتصادية والمالية. من جهة أخرى، فإنّ وجود “حزب الله” كعنصرٍ أساسي في المعركة القائمة، يُحتّم على الإسرائيليين والأميركيين أولاً إعادة النظر بمسألة ترسيم الحدود البحرية والتفاوض عليها، وثانياً تجنيب حقل كاريش تهديداتٍ فعلية بسبب أي نزاع عسكري قد يحصل، في حال وجد لبنان أن إسرائيل اعتدت على حقوقه.
وعند هذه النقطة، يقولُ العارفون بملف التفاوض إن لبنان لديه أوراق قوّة بيده يُمكن أن يستخدمها، في حين أن توازن الردع القائم ومخاوف إسرائيل من الإنجرار إلى معركة مع “حزب الله”، يُحتم على مختلف الأطراف تفعيل المفاوضات غير المباشرة من جديد، على قاعدة ضمان الحقوق والتمسك بها. مع هذا، تبرزُ في الأفق مخاوف من أن فشل المفاوضات و”غضب” الأميركيين، قد يُساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية في لبنان، وقد يرتدّ ذلك على الوضع العام ككل.
المصدر: خاص “لبنان 24”