ما يظهر على أنه تصرف عشوائي غير خاضع لأي قاعدة في القطاع المصرفي اللبناني، ما هو في الحقيقة إلا ما اصطلح على تسميته بالفوضى المنظمة «chaordic». فعلى عكس المودعين الضائعين في متاهات الخطط والحلول، يعلم المصرفيون جيداً ماذا يريدون. جديد الإجراءات المتخذة إلغاء بطاقات الدفع اللولارية، والإبقاء فقط على تلك المربوطة بـ»الحسابات الطازجة» fresh account.
منذ اليوم الأول لانفجار الأزمة عشية 17 تشرين أخذ المصرفيون طريق حماية أنفسهم على حساب المودعين، وسلامة القطاع وإمكانية تعافيه. ساعدهم على ذلك توفير مصرف لبنان مظلة حماية لتحويل الودائع من الدولار إلى الليرة بـ»بنت شفة». فما كادت عبارة أن «المصارف غير مجبرة على إعطاء الدولارات للزبائن، بل هي مجبرة على دفعها بالليرة اللبنانية»، تخرج من فم حاكم المركزي، حتى توقفت المصارف عن إرجاع الودائع بالدولار كلياً، بعدما عمدت إلى تقسيطها تنازلياً وبحسب حجم الحساب، إلى أن وصلت الدفعة الشهرية للكثير من الحسابات إلى 200 دولار.
ليلرة الودائع
لم تمض أسابيع قليلة حتى أصدر حاكم المركزي في نيسان 2020 التعميم 151 الذي شرّع بموجبه نقل الودائع إلى الليرة بسعر صرف غير حقيقي، ولتكرّ من بعده سلسلة التعاميم التي تساهم بـ»ليلرة» الودائع، ودفعها على أسعار صرف أقل بكثير من سعر صرف السوق؛ منها: التعميم 158 الصادر في منتصف 2021. حيث أجاز تسديد 400 دولار نقدي و400 دولار بالليرة على سعر 8000 ليرة للدولار، يدفع نصفها (2.4 مليون نقداً) ويوضع النصف الآخر في بطاقة مسبقة الدفع. في المقابل منعت البنوك أصحاب المصالح من مستشفيات ومدارس ومتاجر ومحطات وقود وشركات… من استعمال الأرصدة المتراكمة في حساباتهم. فارضة عمولة تراوحت بين 12 و30 في المئة على كل ليرة تحول من حساب المؤسسة إلى حساب موظفيها أو الموردين أو خلافه من أصحاب المصلحة. فما كان من الكثير من التجار إلا التوقف عن استقبال بطاقات الدفع، فيما عمد البعض الآخر مثل السوبرماركت إلى اشتراط تسديد 50 في المئة فقط من ثمن السلع بالبطاقة والباقي يدفع نقداً.
وقف البطاقات القديمة
اليوم يستكمل المخطط بإجراءات تعيق استخدام البطاقات المدينة بالليرة بشكل كلي، ووقف العمل ببطاقات اللولار والحسابات المحتجزة. وحصرها فقط بحسابات الفريش الدولار. وهو ما يعتبر بحسب عضو رابطة المودعين هادي جعفر «جزءاً من دولرة الاقتصاد ككل، إنما مع الأسف بالقطعة وبشكل اعتباطي». حيث أصبح لكل سلعة أو خدمة سعر صرف خاص بها بالدولار. ايجار السيارات والفنادق مثلاً يسعران بالدولار النقدي. والبنزين على سعر منصة صيرفة. والاتصالات ومن بعدها الكهرباء، لهما معادلة خاصة في كيفية احتساب سعر الصرف… وهكذا يستمر القيّمون على القرارات النقدية بسياسة غب الطلب التي تهدف إلى «تكريس الهيركات والحرمان، وتحميل المودعين الثمن الأكبر»، من وجهة نظر جعفر. «إذ إن شريحة المودعين التي أرغمت على السحب من ودائعها المحتجزة بهيركات قد يصل إلى 80 في المئة من أجل تأمين حاجياتها الأساسية من غذاء وأدوية وأمور طارئة… لم تعد تستطيع إلى ذلك سبيلاً اليوم. وعلى الرغم من قساوة عقود الإذعان التي فرضت على المودعين بالتكافل والتضامن بين المصرفيين، وما نتج عنها من خسائر باهظة، انتقلوا إلى مرحلة جديدة أشد قسوة تتمثل في نقل مفهوم الفريش بالعملة الورقية إلى البطاقات الإلكترونية». إن كان كل ما يجري هو أمر مفروغ منه بحكم الأمر الواقع، إلا أنه يؤسس بحسب جعفر إلى «تكريس الدولرة والهيركات، ويؤشر بشكل واضح إلى أن القطاع المصرفي لم يعد يلعب دوره الطبيعي، إنما انتقل إلى مؤسسات لاحتجاز الأموال».
انسوا ودائع اللولار
من الناحية التقنية «لم يتغير شيء»، بحسب المحامي المتخصص في الشأن المصرفي عماد الخازن. «حيث لم يعد أحد يستخدم البطاقات المدينة المرتبطة بحسابات اللولار، ولا سيما مؤخراً مع تعاظم الفرق بين سعر صرف السوق، والسعر الرسمي الذي تحتسب على أساسه المدفوعات بالدولار للبطاقات. حيث يرتب استعمال البطاقة باللولار هيركات بأكثر من 95 في المئة. إنما في المقابل فإن إلغاء البطاقات المرتبطة بحسابات اللولار يعني من الناحية المعنوية إلغاء كل الودائع المتراكمة قبل 17 تشرين الأول من الحسابات. بمعنى آخر كأنهم يقولون للمودعين «انسوا ودائعكم القديمة، ولنبدأ من جديد على أساس الودائع الطازجة».
إنطلاقاً من هذا المنطق يصبح لزاماً على المودعين تحويل ودائعهم بالدولار إلى الليرة على سعر 8000 ليرة أو إلى أي سعر آخر ممكن أن يُحدد في المستقبل، والحصول عليها بالتقسيط كما ترتأي المصارف، وتبعاً للسقوف الموضوعة. ومع رفض أكثرية البنوك وضع الشيكات بالدولار في الحساب «لم يعد هناك من وسيلة دفع لاستخدام اللولار»، يضيف الخازن. «فيما السحوبات المباشرة من الصندوق لا تمثل بأي شكل استرجاعاً للودائع، إنما هي بديل عنها «لا يرجع من الجمل أذنه».
الحد من تنامي الاقتصاد النقدي
على عكس ما يعتقد البعض أن ما يجري يشجع الاقتصاد النقدي، يرى الخازن أن العكس هو الصحيح. «حيث عادت وسائل الدفع غير النقدية عبر الشيكات والحوالات وبطاقات الدفع الالكتروني لتظهر من جديد بعدما غابت لفترة طويلة. وبدلاً من الدفع النقدي، وسحب الحوالات، ومراكمة المداخيل بالعملة الصعبة في الخزنات المنزلية، أصبح بإمكان المودعين وضعها في المصارف إذا كان قد بقي جزء من الثقة بها، واستعمال وسائل الدفع غير النقدية الأكثر أماناً والأقل خطراً بشكل عام على الاقتصاد». أما في ما خص البطاقات بالليرة فقد «حصر استعمالها في المناسبات الخاصة»، برأي الخازن. «حيث تقبل بها المؤسسات التي تحتاج لسيولة سريعة لفترة محددة، فتجذب كل من راكم الأموال بها سواء كان من الحوالات أو التعميم 158 ولا يستطيع التصرف بها».
كلفة الحسابات الطازجة
بالإضافة إلى الخسارة المعنوية لخسارة المودعين حساباتهم القديمة باللولار، فإن البطاقات الجديدة يترتب عليها أعباء إضافية تتمثل في الرسوم الشهرية للحساب التي تتراوح بين 5 و7 دولارات، وسعر البطاقة الالكترونية سنوياً بين 20 و30 دولاراً، تضاف إلى تكاليف بين 7 و10 دولارات شهرياً، و1 دولار بدل خدمة الرسائل النصية SMS، هذا عدا عن عمولات السحب والايداع التي تتراوح بين 2 و7 بالألف. ومع هذا كله فان أغلبية المؤسسات ما زالت لا تقبل بطاقات الدفع الالكترونية، حتى لو كانت بالفريش دولار، وتفضل القبض النقدي للهروب من عمولات المصارف الكبيرة عند سحب الاموال. فيما تمثل هذه العائدات مورداً أساسياً للمصارف، خصوصاً بعدما توقفت عن عمليات الإقراض.
قد يكون لسخرية القدر أن من صاغ مصطلح الفوضى المنظمة هو دي هوك Dee Hock مؤسس شركة فيزا لبطاقات الائتمان، فيما استخدام هذا المصطلح يتجلى في لبنان بأبشع تجلياته للانتقام من المودعين وتحميلهم الخسائر الكبرى وتحويل بطاقاتهم إلى الفريش وتطيير ودائعهم القديمة.
المصدر: نداء الوطن