في تطوّر غريب من نوعه بالنسبة إلى بلد يعاني من إفلاس شامل، ومن انهيار في قيمة عملته، ومن أزمة صنّفت هي الأسوأ في تاريخ البشرية منذ 150 عاماً، والمصنّف عالمياً الرقم واحد في سلّم تضخّم أسعار الغذاء، أظهر تقرير أعدّته “غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان” أنّ حجم الاستيراد خلال العام 2021 بلغ نحو 13.6 مليار $، أيّ بزيادة 2.3 مليار $ عن العام 2020 (كان 11.3 مليار دولار).
السلطة قرأت هذه الأرقام جيّداً، ولهذا بدأت الحكومة في درس رفع “الدولار الجمركي” بوصفه “حلّاً سحريّاً” قادراً على رفد خزائن الدولة بأموال تمكّنها من تعزيز إيراداتها، وبالتالي دفع واجباتها تجاه موظّفيها في القطاع العامّ، من خلال زيادة رواتبهم والتقديمات الاجتماعية وبدل النقل، لمواجهة تآكل قيمة رواتبهم الشرائية بأكثر من 2000%.
والدولار الجمركي حتى تاريخ كتابة هذا التقرير، يحتسب على سعر صرف 1500 ليرة. لكنّ الحكومة حتى اللحظة لم تقرّر أيّ سعر صرف سترسو عليه: فإذا اعتمدت سعر 12 ألف ليرة للدولار الواحد، فهذا يعني أنّها زادت الجمارك 8 أضعاف. أمّا إذا أقرّته على 15 ألفاً فستكون الزيادة 10 أضعاف، من دون أن يطرح أحد من المعنيّين فكرة الزيادة التدريجية رأفةً باللبنانيين الذين ستهبط الزيادات على رقابهم كالسيف!
لتقريب الصورة أكثر وتوضيح ما ينتظرنا جرّاء هذا القرار، كان لا بدّ من إسقاط هذا الكلام على مجموعة سلع حتى لا يكون الكلام “نظريّاً” وفي الهواء. الطريقة الفضلى لتسهيل شرح هذا الأمر بسيطة، إذ يمكن القول إنّ وظيفة الدولار الجمركي هي إعادة الأمور إلى نصابها السابق قبل الأزمة. بمعنى آخر، سيكون احتساب الزيادة مربوطاً بنسبة التعرفة الجمركية المحدّدة لكلّ سلعة، فيكفي الزيادة بالنسبة نفسها على سعر السلعة حتى نحصل على سعرها التقريبي المفترض.
على سبيل المثال، وفق التعرفة الجمركية على الأدوية، المحدّدة بـ5%، فإنّ الزيادة التي ستطرأ على سعر دواء الـPanadol هي 5% من سعره الحالي، أي سيرتفع من 47 ألفاً إلى قرابة 50 ألفاً. لوح الشوكولاته “Mars” سعره على الرفّ في السوبرماركت 15,000 اليوم، سيرتفع إلى 17,250 ليرة، لأنّ الجمارك على هذا النوع من السكاكر هي 15%. أمّا اللحوم والأسماك فجمركها 5%، أي أنّ كيلو اللحم البقري سيرتفع من 350 ألفاً إلى قرابة 367 ألفاً، وغالون الزيت النباتي (5 ليتر) سيرتفع من 300 ألف إلى 315 ألفاً… هذا إذا تخطينا التسيّب الحاصل في الأسواق، وجشع التجار الذين يصرّحون بدولار 1,500 ليرة ويبيعون بدولار 30 الفاً.
لماذا الدولار الجمركيّ اليوم؟
تحاول الحكومة أن تخفّف من وقع هذه الخطوة على الرأي العامّ، فتُشيع أنّ هذه الزيادات تتعلّق بالسلع الكمالية فقط ولن تطول السلع الرئيسية. فإذا كانت تطول الكماليات فلماذا لا تُرفع الجمارك على السلع الكمالية حصراً؟
يُضاف إلى هذا تبرير آخر تعتمده السلطة ويقول إنّ “الدولار الجمركي” سيُطبّق على نحو 600 سلعة فقط من دون ذكر أصل هذه السلع. هل هي 600 سلعة من أصل ألف؟ أو 10 آلاف؟ أو 100 ألف سلعة؟ وكيف ستُحتسب؟ وفق البنود الجمركية أم مسمّيات السلع؟
لا إجابات واضحة عن هذه الأسئلة.
لكنّ السؤال الأبرز هو: لماذا لم تبحث الحكومة عن خيارات بديلة عن “الدولار الجمركي” تكون أشد تركيزاً وأخفّ ضرراً على المواطنين؟
الغريب في تقرير “غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان” هو نوعية السلع التي زاد استيرادها، أو ربّما تخزينها وليس بالضرورة استهلاكها مباشرة.
قد يقول قائل إنّ دعم السلع الغذائية الرئيسية هو السبب، وقد يقول آخر إنّ هذا الدعم حفّز التجار على تكثيف الاستيراد من أجل الاستفادة من دولارات مصرف لبنان. إلّا أنّ هذه الفرضيّات تنطبق على المحروقات وبعض السلع الغذائية، لكنّ الصورة العامّة تُظهر أنّ المستهلكين في لبنان تهافتوا على الاستيراد والاستهلاك بشكل مخيف، على الرغم من الأزمة ومن انتشار فيروس كورونا وتداعياته الاقتصادية، وقد حلّت السلع الأكثر استيراداً وفق الهرميّة التالية من الأعلى إلى الأسفل:
1- المحروقات: شهدت زيادة بين 2020 و2021، قيمتها 598 مليون دولار (3.7 مليارات $ في العام 2021)، وهذا أمر قد يبدو طبيعياً مع تراجع ساعات التغذية الكهربائية، واعتماد الناس على المولّدات الخاصة. وهو رقم لافت يستأهل التدقيق في البيانات الجمركية نتيجة ما كان يُحكى عن التهريب في حينه. لكنّ البعض يردّ ذلك إلى الفرق بين التهريب وإجراءات الحجر الصحّي جرّاء كورونا. بمعنى آخر: ما وفّره اللبنانيون بتراجع استهلاك البنزين بسبب الحجر والإقفال العام، ذهب إلى جيوب المهرّبين.
2- المجوهرات: زاد استيرادها من 894 مليوناً إلى 1.23 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 344 مليون دولار وزنتها 361 طناً. وهذا مفهوم، مع تراجع الثقة بالمصارف، يتوجّه الناس إلى تحويل مدّخراتهم من العملة الورقية إلى الذهب.
3- السيارات والجرّارات والدرّاجات: شكّلت مفاجأة كبرى إذ ارتفعت من 431 مليوناً إلى 1.06 مليار دولار، أي بزيادة 634 مليون دولار، والأرجح أنّ الجزء الأكبر منها يعود إلى الدرّاجات النارية (ومنها ما هو مخصّص للّاجئين السوريين خارج بيروت وداخلها) ومركبات “التوكتوك” التي دخلت الأسواق اللبنانية، نتيجة أزمة الوقود. لأنّ التقرير نفسه يذكر أنّ بيع السيّارات الجديدة انخفض من 21 ألفاً سنوياً إلى 4 آلاف فقط.
4- الأدوات الكهربائيّة: تضاعف استيرادها من 301 مليون إلى 627 مليون دولار (زيادة 326 مليون دولار). وهذا رقم غريب قد يصعب تفسيرهن إلا إذا كان يشمل البطاريات والأجهزة التي تدخل في تركيب أنظمة الطاقة الشمسية.
5- الحبوب: زاد استيرادها من 354 مليوناً إلى 430 مليون دولار (زيادة 76 مليون دولار)، وتأتي هذه الزيادة بسبب التغيّر في النظام الغذائي للّبنانيين بعد التخلّي عن اللحوم التي انخفض استيرادها وبالتالي استهلاكها بين العامين المذكورين بنحو 105 ملايين دولار.
6- اللدائن ومصنوعاتها (البلاستيكيّات): زادت إلى 406 ملايين دولار، أي بنحو 100 مليون دولار، وذلك بعد الطلب الهائل على موادّ التطهير والتنظيف جرّاء انتشار فيروس كورونا، وبالتالي على لزوم التغليف والعبوات وغيرها.
7- الحديد والصلب: زاد استيرادهما بنحو 107 ملايين، مسجّلاً 294 مليون دولار، وقد تكون هذه الزيادة نتيجة انفجار المرفأ والحاجة إلى موادّ البناء من أجل إعادة إعمار ما تهدّم، إضافة إلى حاجة سوريا إلى هذه الموادّ نتيجة إعادة الإعمار والحصار المفروض عليها.
8- الشحوم والدهون والزيوت: هي الأخرى زادت إلى 197 مليون دولار، أي قرابة 71 مليون دولار.
9- سلع أخرى: تحت هذا البند، سلع متنوّعة كثيرة لم يأتِ التقرير على ذكرها بالتفصيل ونسبتها 24% من حجم الاستيراد، شهدت زيادة قرابة 600 مليون دولار.
هذه الأرقام هي مؤشّر صريح إلى زيادة الاستيراد في أوّل عامين من الأزمة، ولا ندري ما تُخفيه أرقام العام 2022 الحالي من مفاجآت مشابهة. لكن يبدو أنّ السلطة القادرة على معرفة أرقام الفصلين الأوّلين من هذا العام، قد وجدت ما يبرّر دخولها على خطّ رفع “الدولار الجمركي” متيقّنةً من أنّ الشراهة على الإستهلاك مستمرّة. فالشعب اللبناني “العيّيش” الذي يتلقّى ما يقارب 7 مليارات دولار من الخارج على شكل حوالات، لا شيء يمنعه من أن يستورد ويستهلك كلّما اشتدّت الظروف عليه.