يشلّ اضراب الموظفين في القطاع العام كل الادارات، ويترك تداعيات كارثية على دورة الحياة في البلاد والانتظام العام وعلى شؤون المواطنين، ليس فقط في تخليص المعاملات انما بتكريس الفوضى وتفكيك المؤسسات التي تشكل إحدى معالم الدولة وعلاقتها بالناس. الثابت في أسباب الإضراب ومقاطعة العمل، أن الموظفين في كل القطاعات يريدون تحسين رواتبهم للتمكن من الوصول إلى مكاتبهم، اي زيادة الاجور وبدلات النقل بما يتناسب مع كلفة الانهيار. ولا يبدو بالنسبة إليهم أن الحلول الوسط، إن كان في المساعدة الاجتماعية أو الرواتب الإضافية والمنح المخصصة لأيام العمل وفق الفئات فضلاً عن بدلات النقل، كافية لاستئناف العمل، بما يعني أن الإضرابات تعمّق أزمة المؤسسات العامة لا بل تفككها، وكأن هناك من اتخذ قراراً بالذهاب بعيداً إلى شل البلد من دون التفكير بعواقب ما قد يؤدي إليه هذا المسار ويمكن أن يدفع الجميع ثمنه غالياً ما لم يتم صوغ تسويات تسمح بإعادة الانتظام للعمل المؤسساتي بالحد الادنى من التقدمات وتلبية المطالب تجنباً للانهيار.
المفارقة اللافتة والمؤسفة أن الاضرابات وان كانت مطالب الموظفين محقة، إلا أنها لا تندرج ضمن سياق تحرك نقابي يؤسس لاصلاح القطاع العام والادارة عموماً ومكافحة الفساد وهيكلة المؤسسات، ولا يندرج أيضاً ضمن العصيان المدني الذي يحمّل السلطة مسؤولية الانهيار وما آلت إليه أوضاع البلد ومؤسسات الدولة، إنما يحمّل المواطنين ما لا طاقة لهم على مواجهته في ظل الغلاء وتهاوي العملة الوطنية وتراجع القدرة المعيشية اللبنانيين، فإذا بموظفي القطاع العام وبعضهم تنعّم بخيرات الرواتب المرتفعة خلال السنوات الماضية لم يعد أمامهم سوى تعطيل المؤسسات والادارة العامة وإقفالها بوجه المواطنين لنيل مستحقاتهم والضغط لنيل مطالبهم، وكأنهم لا يدركون أن السلطة والطبقة السياسية التي حكمت البلد ضخّمت القطاع العام وجعلته في معظمه مكاناً للتنفيعات انطلاقاً من المحاصصة في التوظيف والتعاقد، وها هم اليوم يدفعون ثمن هذه السياسات التي أطاحت بكل شيء.
قرار الاضراب والتعطيل الذي تتخذه عادة الحركة النقابية، وهي اليوم غائبة ومهشمة، للضغط، لا يكون تحت شعار”علي وعلى أعدائي” والاعداء باتوا اليوم أكثرية اللبنانيين الذين لا يستطيعون الحصول على ورقة ومعاملة، حتى رواتب المضربين لم تصرف في وزارة المال، فترتد الازمة عليهم، وهي سياسة لا تحرج السلطة بل تضع الموظفين في مواجهة المواطنين والرأي العام، فيستحيل الإضراب كارثة على الجميع وينهي مؤسسات الدولة بدل إصلاحها وتطويرها.
نتائج الإضراب لم تكن لمصلحة الموظفين حتى الآن على الرغم من مرور شهر على إقفال المؤسسات. البلد في حالة انهيار ولن تتمكن حكومة تصريف الاعمال من تلبية المطالب كلها، وهو ما يستدعي من الموظفين ومن رابطاتهم، أو يفرض إعادة النظر بكل الحركة المطلبية، والبحث عن سبل للضغط فعلاً على السلطة والطبقة السياسية وقواها التي تسببت بالأزمات، وإعادة مد الجسور مع اللبنانيين المتضررين ومن السياسات التي تسببّت بالانهيار، ولا باس من برمجة أيام الإقفال لتسيير شؤون الناس مع استمرار الضغط لتحقيق المطالب. أكثر ما يُحزن في إضراب القطاعات أيضاً العذابات التي يتكبدها التلامذة والطلاب للحصول على شهاداتهم وتصديقها رغم أن إضراب موظفي التربية إتخذ في الفترة الاخيرة، لكن المشهد مؤلم للناس ولمستقبل أولادهم!