تعدّد أسعار الصرف أنتج العديد من التشوهات في السوق وفي الاقتصاد وفي حياة اللبنانيين. وأكثر تلك الأسعار ما يسمّى خلافاً للقانون بالسعر الرسمي. في لبنان لا يجوز الحديث عن سعر رسمي لأن التداول بالعملات حرّ وللسبب عينه لا يجوز الحديث عن سوق سوداء في نظام اقتصادي حرّ.
قانون النقد والتسليف اعتمد في المادة الثانية منه “السوق الحرة للعملة الأجنبية” التي تحدد السعر الحقيقي لليرة وهو “السعر الانتقالي القانوني” الذي يصدر بقرار من وزير المال.
أما ما يسمى السعر “الرسمي” (1507 ليرات للدولار) فهو سعر السوق الحرة السابق قبل الانهيار والذي كان يتم الإعلان عنه كحصيلة للتعاملات اليومية التي كانت تجري في المصارف. أي أن المنصّات كانت داخل النظام المصرفي، وكان المصرف المركزي في تلك الفترة لاعباً أساسياً في تلك السوق يقوم بالتدخل فيها بائعاً أو شارياً للدولار بما يملكه من احتياطات كبيرة كانت تتيح له الإبقاء على سعر مصطنع وشبه ثابت.
سوق القطع الحرة أصبحت خارج المصارف بعد أن أقفلت الاخيرة أبوابها وحجزت الودائع، وأصبح السعر الحقيقي لليرة بعيداً جداً عن السعر السابق الوهمي. وبرزت مشكلة عدم وجود منصة تبادل يمكن الركون إليها في ظل ازدهار المنصات التي مورست فيها المضاربات. واستمرّ ذلك إلى أن أطلق مصرف لبنان “منصّة صيرفة” استناداً إلى المادة 75 من قانون النقد والتسليف، والتي أصبحت تؤمّن للمستوردين ما يحتاجون من العملة الأجنبية وفق سعر متقارب مع السوق الحرة.
رغم ذلك، وبسبب خوف الجماعة الحاكمة من غضب الناس، استمر تحصيل الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة على أساس “السعر الرسمي” الذي يجمع صفتين : الوهمي وغير القانوني.
ومع تفاقم المشكلة تجد الحكومة نفسها مضطرة إلى رفع سعر الصرف المعتمد لاحتساب تلك الرسوم من 1500 إلى 20,000 ليرة. في حين كان من المفترض أن يرتفع بالتزامن مع تدني قيمة العملة الوطنية وبشكل تصاعدي يتفاعل معه الاقتصاد تدريجياً.
لهذه الغاية أعدّت الحكومة مشروع مرسوم يرمي إلى تحديد سعر الدولار الأميركي من أجل احتساب البضائع الواجب التصريح عنها للجمارك. إلا أن مجلس شورى الدولة اعتبر بأن مضمون التعديل يحتاج إلى إقراره بموجب قانون وليس بمرسوم لأنه يتعلق بالتشريع المالي ويتجاوز التفويض التشريعي الذي أعطاه القانون للحكومة لكي تشرّع في الحقل الجمركي، وهذا صحيح.
ما يثير الصدمة أن قانون الجمارك واضح وواجب التطبيق ولا يحتاج إلى تعديل أصلاً، فقد نصت المادة 35 من قانون الجمارك على أنه:
“إذا كانت قيمة البضائع الواردة في الفاتورة محررة بعملة أجنبية، يتم تحويلها إلى عملة لبنانية على أساس معدل التحويل المعمول به بتاريخ تسجيل البيان التفصيلي والمسند الى معدلات التحويل التي يحددها، شهريا أو دوريا، مصرف لبنان.”
كان يكفي منذ بداية تدني قيمة الليرة أن تراسل الجمارك مصرف لبنان لسؤاله عن معدلات التحويل التي يحددها، وتعتمدها. ومنذ إطلاق منصة صيرفة على الأقل كان من الواجب اعتبار خلاصة عملياتها معدلاً للتحويل. وهذا لم يحصل، ما يعني أن مبالغ طائلة من الرسوم الجمركية لم تحصّل. كانت كافية لرفع إيرادات الخزينة بشكل تدريجي يسمح لها بالمقابل بتأمين الزيادات المطلوبة لرواتب القطاع العام.
الحقيقة القانونية أنه لا يوجد ما يسمّى بالدولار الجمركي، لا يوجد سوى الدولار بسعره الحقيقي، ولم تجرؤ الدولة على تطبيق القانون لهذه الناحية. أمّا ما يحصل اليوم فهو بحثٌ عن أداة قانونية، مرسوم أو قانون، لتشريع الفترة السابقة وتغطية الهدر الكبير في التحصيل.
النهار