“الرئيس القويّ” عبارةٌ تتردّد في الأوساط الشعبيّة اللبنانيّة، والمسيحيّة منها تحديداً، إذْ في أذهان الناس فكرةٌ تقول إنّ هناك رئيساً قويّاً، وهناك رئيسٌ غير قويٍّ. ولعلّ المعيار الأساس للقوّة بنظرِهم هو حجم شعبيّة الرئيس. المسيحيّون استعملوا هذه العبارة بعد الطائف حين شعروا بأنّ من يمثّلهم في الموقع الرسميِّ الأوّل لا يُمثّل تطلّعاتهم الوطنيّة ووجدانهم الجماعي. ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة طابقَ هذا التوجُّه.
لكنّكَ في السياسة لا تستطيع أن تُفكّر من دون الاستعانة بالتاريخ. في التاريخ رئيسا جمهوريّة من دون حيثيّة شعبيّة وكانا من أفضل الرؤساء، هما الرئيسان فؤاد شهاب وإلياس سركيس. شهاب وسركيس كانا قويّين بفضل المؤسّسات التي أداراها، وعقلِهِما المؤسّساتي الذي أدار الدولة. واحدٌ أدار مؤسّسة الجيش والآخر مصرف لبنان. رئيسا الجمهوريّة اللذان كانت لهما حيثيّة شعبيّة هما كميل شمعون وميشال عون. لكنّ الرئيس الأوّل انتهى عهدُه بثورة، فيما كان التعثُّر سمة عهد الرئيس الثاني. كذلك نظر المسيحيّون إلى بشير الجميّل كرئيسٍ قويٍّ، الرجل الذي سقطَ بحادثة اغتيال قبل أربعين عاماً، قبل أن يحكم.
حول العالم لم يكن الوضع أفضل. خُذْ مثلاً شارل ديغول ذا الشعبيّة الواسعة بعد الحرب العالميّة الثانية. بخِلَ عليه الفرنسيّون بولايةٍ ثانية. جورج بوش الأب، قائد تحرير الكويت من احتلال صدّام، انتخبَه الأميركيّون لأربع سنوات ولم يجدّدوا له. الرئيس دونالد ترامب لم يُعَد انتخابُه وهو الرئيس الذي أوصلَ نسبة البطالة في عهده إلى مستويات منخفضة غير مسبوقة.
لنخرُجْ من المشهد الرئاسي الماروني. خُذ مثلاً رفيق الحريري. كان قويّاً جدّاً في المال والتمثيل الشعبي والعلاقات. لكنّه انتهى بحادثة اغتيالٍ، فيما إرثُه السياسيُّ لا يبدو في أفضل حال. قد تقول لي: “لكنّ الحريري حَكَمَ البلد”. أنا لا أرى ذلك. في عزِّ زمن سلطته، وصل الحريري إلى وقتٍ وضع ثقلَه المالي الشخصي على المحك لكي يُمكّن الدولة اللبنانيّة من تسديد رواتب موظّفي القطاع العام. سليم الحصّ وشفيق الوزّان لم تكن لهما شعبيّة تمثيليّة كالحريري لكنّهما أنجزا الكثير خصوصاً الرئيس الحصّ.
يأخذني الكلام إلى ثلاث ملاحظات. الأولى هي أنّ الرئاسة لا تقوّي الرئيس بل تقوى به. ميشال عون أضعَفَته الرئاسة. الرئاسة تقوى بالرئيس. هذا ما حصل مع فؤاد شهاب. كُلّنا نذكر قصّة الخيمة واللقاء الشهير مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. والملاحظة الثانية هي أنّ رئيسَ جمهوريّةٍ قويّاً من هنا، ورئيس حكومةٍ قويّاً من هناك، وعلى امتداد عقودٍ من الزمن، أنتجا نظاماً غير قابلٍ للحياة. هذا النظام لا يستطيع اليوم أن يُشكّل حكومةً، وإذا شكّلها فهي مشلولة، وإذا أنَجَزت فبالقدر اليسير. الملاحظة الثالثة تتمثّل بفكرة أنّ قوّة “الرئيس القويّ” لا تأتي من شعبيّته بل من تمسّكه بالدستور والقانون. أيُّ حيادٍ عن هذا الخط هو ضعفٌ له ولكلّ رئاسة لا يُعوَّض. ولعلّي أُريد أن أتذكّر الآن سؤال الرئيس شهاب الشهير: “شو بيقول الكتاب”؟ من هنا يستمدّ الرئيس “القويّ” قوّته.
يحتاج لبنان إلى رؤساء “أقوياء” للجمهورية وللمجلس النيابي وللحكومة خارج هذا النظام السياسي وهذه العقليّة، رؤساء تكون قوّتهم بعقولهم لا في “شارعِهم”، رؤساء يُنجِزون للبلد، فلا يسمحون بوصوله إلى ما وصل إليه، بسبب ما هُم عليه من “قوّة” وهميّة.
النهار