قد تنطبق مقولة “مصائب قوم عند قوم فوائد” على الصين اليوم، بعد أن كان يقال دوماً إن “عطسها قد يصيب العالم بالزكام”، ففي وقت تعتبر فيه حملة بكين على مطوري العقارات وسياساتها الصارمة “صفر كوفيد” أخباراً سيئة، إلا أن المشكلات الداخلية في الصين لها جانب إيجابي، إذ إن انخفاض الطلب على المعادن والطاقة والغذاء والسلع الرأسمالية المستوردة يخفف من الضغوط التضخمية في بقية العالم، وللمرة الأولى منذ عقود يعتبر الفائض التجاري الهائل للبلاد نعمة للعمال في أماكن أخرى.
وكان بدأ الانكماش في سوق الإسكان الصيف الماضي استجابة للقيود الحكومية على قروض الرهن العقاري ورافعة المطورين، وباع بناة المنازل ما متوسطه 156 مليون متر مربع شهرياً من مساحة الأرضية السكنية من أبريل (نيسان) إلى يونيو (حزيران) 2021، وفي الفترة ذاتها من عام 2022 باع المطورون الصينيون 106 ملايين متر مربع فقط شهرياً بحسب ماثيو كلين مؤسس The Overhoot والمؤلف المشارك لـكتاب”Trade Wars Are Class Wars” أي “الحروب التجارية هي حروب طبقية”.
ولفت كلين إلى تراجع الطلب على المباني الجديدة في الصين وانخفاض حجم “مساحة الأرضية السكنية” في أبريل ويونيو 2022 بمقدار النصف تقريباً مقارنة بالعام الماضي، مشيراً إلى أن وتيرة بناء المنازل لم تكن بهذا البطء منذ عام 2009، محذراً من أنه سيكون لذلك تداعيات أوسع، بخاصة أن العقارات السكنية هي الأخرى فئة الأصول الوحيدة المتاحة على نطاق واسع للمدخرين الصينيين خارج الودائع المصرفية، مما يقلل من قيمة الأسهم والسندات الصينية.
ويقول كلين إنه وحتى وقت قريب كان المستهلكون الصينيون يقترضون من البنوك لشراء منازل جديدة لم يتم بناؤها بعد كعقارات استثمارية، واليوم يفشل المطورون في إنهاء مشاريعهم بسبب نقص السيولة، ويرفض بعض مشتري المساكن المحتملين دفع قروضهم العقارية، فيما تضغط بعض البنوك المحلية على المودعين.
علاوةً على ذلك، اعتمدت الحكومات الإقليمية والمحلية في الصين على عائدات مبيعات الأراضي لتغطية نحو ثلث إنفاقها، لكن هذه الأموال لم تعد تتدفق، ووفقاً لوزارة المالية الصينية كانت عائدات الحكومة المحلية من مبيعات الأراضي حتى الآن هذا العام أقل بنسبة 31 في المئة مما كانت عليه في الأشهر الستة الأولى من عام 2021.
في حين أن إصدار سندات الحكومة المحلية آخذ في الارتفاع، كان المبلغ المجموع في مايو (أيار) ويونيو 2022 أكبر مبلغ لمدة شهرين على الإطلاق، ويعكس هذا في الغالب نقصاً في التدفق النقدي بدلاً من الإنفاق الاستثماري الجديد، فيما يقود اليأس بعض الحكومات المحلية إلى جمع الأموال بنحو تسعة في المئة من العائدات من المدخرين المنزليين، على الرغم من أن الحكومة المركزية تصدر سندات لمدة 10 سنوات بعوائد أقل من ثلاثة في المئة.
قيود كوفيد والمعادن
ويتفاقم تأثير انهيار الإسكان في الصين بسبب القيود الحكومية المتعلقة بـ”كوفيد-19″، وكان إنفاق المستهلكين الصينيين في النصف الأول من عام 2022 أعلى بقليل مما كان عليه في النصف الأول من عام 2021 بعد حساب التضخم، وهو الآن يتراجع بأكثر من 10 في المئة عن اتجاه ما قبل الوباء، في وقت تعمل مصافي النفط الصينية على معالجة نفط خام أقل بنسبة 10 في المئة منذ أبريل، مقارنة بالربيع الماضي بفضل انخفاض الطلب على البنزين، في حين أن استهلاك الكهرباء الذي كان يتوسع بنحو 7 في المئة قبل عام من الوباء، ينمو اليوم بنسبة 2 في المئة فقط.
والنتيجة هي إمداد إضافي لبقية العالم من خام الحديد والفحم المعدني والنحاس، وهي المواد الأساسية لصنع الفولاذ الإنشائي والأجهزة المنزلية والأسلاك الكهربائية، فقبل الانكماش الأخير كانت الصين تستهلك نحو ثلثي خام الحديد والفحم المعدني في العالم ونحو 40 في المئة من النحاس، بالتالي فإن انخفاض الطلب يعني انخفاض الأسعار، وبالمقارنة مع الذروة الأخيرة في يوليو 2021 انخفضت العقود الآجلة لخام الحديد بمقدار النصف، بينما انخفضت أسعار الفحم المعدني الصيني بنحو الثلث، وانخفضت أسعار النحاس العالمية بمقدار الربع على الرغم من الرياح الخلفية المتوقعة للاستثمارات الخضراء المرتبطة بالمناخ في الولايات المتحدة وأوروبا، ومن ثم فإن ضعف الصين الداخلي يسحق الطلب على السلع من بقية العالم.
ومن حيث القيمة الدولارية، ظل الإنفاق على الواردات ثابتاً منذ نهاية العام الماضي، وهو عامل في ارتفاع الأسعار، وانخفض الطلب الحقيقي على الواردات في الصين بنحو ثمانية في المئة منذ بدء عمليات الإغلاق، وفقاً لتقديرات المكتب الهولندي لتحليل السياسة الاقتصادية، ومع ذلك تستمر صادرات الصين في الارتفاع، مما يوفر للمستهلكين والشركات الأجنبية السلع التي يحتاجون إليها.
في الماضي، كان الاختلال الهائل بين صادرات الصين الصحية والواردات الضعيفة يمثل عبئاً على الاقتصاد العالمي، ما يؤدي إلى حرمان العمال في أماكن أخرى من الدخل الذي كانوا سيكسبونه من بيع السلع والخدمات للعملاء الصينيين، لكن الآن بعد أن أصبح التضخم ونقص السلع مصدر قلق أكبر من العمالة الناقصة، تكون مشكلات الصين هي ما يحتاج إليه بقية العالم.
المصدر : كفايا أولير