يستمرّ ابتزاز الشركات الأرضية الخاصة العاملة في مطار بيروت لـ«الجامعة اللبنانية» بهدف هضم أموالها المستحقة لقاء فحوص الـ PCR. القيمة الحقيقية للمبالغ المتوجبة على الشركات هي 52 مليون دولار، والحلّ القانوني يقضي بأن تستخدم وزارة الأشغال صلاحياتها بفسخ عقود الشركات ومساعدة الجامعة في تحصيل حقوقها، فيما الرهان هو على النيابة العامة المالية لأن تضع سقفاً زمنياً لتحقيقاتها وتمنع إثراء الشركات غير المشروع على حساب المال العام
لا توفّر شركات الطيران وشركات الخدمات الأرضية الخاصة العاملة في مطار بيروت جهداً في التضليل المتعمّد وإثارة الغبار للتعمية على اغتصابها لأموال عمومية عائدة إلى الجامعة اللبنانية. الأخيرة ترفض تسلّم حقوقها المالية بواسطة شيكات بالدولار كما تعرض الشركات، أي إعطاء ما قيمته نحو 5 ملايين دولار بدلاً من 52 مليون دولار. ومن المعروف أنّ هذه المبالغ هي بدل إجراء فحوص الـ PCR لفيروس كورونا التي أضيفت قيمتها على سعر تذاكر السفر في وقت سابق، ولا تزال الشركات الخاصة متمسكة بحجج واهية لرفض دفع متوجباتها للجامعة، علماً بأن قرار ديوان المحاسبة رأى في حجز الشركات لهذه الأموال العمومية إثراء غير مشروع.
آخر فصول ابتزاز الشركات التلويح بمستند يجيز فيه وزير الصحة العامة السابق، حمد حسن، لشركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية أو “الميدل ايست” تسديد قيمة الفحص بالليرة اللبنانية وفق السعر الرسمي لصرف الدولار لتكون 75 ألف ليرة لبنانية عن كل فحص.
“فيلم محروق”
لكن لدى التدقيق في هذا المستند، نجد أنه موقّع في 30 أيلول 2020 أي قبل دخول الجامعة على خط إجراء الفحوص، وقبل التوقيع على مذكرة التفاهم الثلاثية الأطراف بين وزارة الصحة والجامعة اللبنانية والمديرية العامة للطيران المدني في 13 تشرين الأول 2020. هذا المستند يتعلق، بحسب ما قال الوزير حسن لـ”الأخبار”، بـ”المختبرات الخاصة التي كانت تُجري الفحوص سابقاً، وبعمل نحو 200 متطوع شكلوا فرقاً صحية وإدارية وتمريضية لاستقبال القادمين وتشبيك البيانات الطبية والشخصية ونوع الفحوص والحجر الفندقي وغيره، وكانت الفكرة إعطاءهم بدل أتعابهم على مدار الساعة، والتي تستمرّ حتى إنهاء الإجراءات الخاصة بكورونا”.
وفي ضوء توضيح حسن، ليس لهذا المستند أيّ علاقة بفحوص المطار المرتبطة بالاتفاقية “الثلاثية”، ولو كان الأمر كذلك لما قبضت الجامعة أموالها في وقت لاحق من الشركات الخاصة على سعر المنصة (3900 ليرة مقابل الدولار الواحد). وهذا يعني أن المستند يُستخدم للتهويل وتضليل العدالة، في حين أن مواد الاتفاقية المتعلقة بمستحقات الجامعة صريحة ولا تحتمل أي التباس، فالمادة الرابعة تنص على: “يتعهد الفريق الثالث (المديرية العامة للطيران المدني) بإلزام شركات الخدمات الأرضية بتحويل مبلغ 50 دولاراً أميركياً أو ما يعادله بالليرة اللبنانية، بحسب سعر صرف تحدّده وزارة الصحة (ويتمّ تعديله دورياً وفق تسعيرة الفريق الأول) من كلّ مسافر قادم من البلدان التي يطلب إعادة فحوصها… حيث يُلزم المسافر بإجراء فحص على المطار فور قدومه، ويكون التحويل وفقاً لما يأتي: 90% من قيمة كلّ فحص لحساب الجامعة اللبنانية، 10% لحساب وزارة الصحة لتغطية المصاريف اللوجستية لإدارة العملية وأخذ العيّنات من القادمين”.
تقدّر المبالغ المستحقة من الشركات منذ 1 تموز 2021 بـ 52 مليون دولار
كذلك تنص المادة السابعة على أن يتعهد الفريق الثالث بتحويل المبالغ المستحقة للجامعة اللبنانية بالدولار الأميركي على الحسابات الخاصة بالجامعة لدى مصرف لبنان…”.
يذكر أن مبلغ الـ 50 دولاراً لم تحدّده الجامعة، بل اللجنة الوزارية المنبثقة عن الحكومة اللبنانية، لذا جرى اعتماده من الدولة اللبنانية. وكان يمكن أن تتقاضاه المختبرات الخاصة لولا اكتشاف بعض الشوائب في عمل بعضها، وهو ما جعل الوزير حسن يطلب من الجامعة اللبنانية تسلّم فحوص المطار بعد نجاحها في فحوص الترصّد الوبائي التي قامت بها مع وزارة الصحة مجاناً في كل المناطق، ولاحقاً لدى تسلّمها الفحوص للقادمين عبر المعابر البرية في المصنع والعبودية.
مع ذلك، تمنّعت شركتا الخدمات الأرضية LAT وMEAG عن تطبيق الاتفاقية ودفع مستحقات الجامعة “فريش دولار”، ضاربتين عرض الحائط بقرار المدعي العام لدى ديوان المحاسبة، القاضي فوزي خميس، الصادر في 24 شباط 2022، الذي يلزم الشركتين المذكورتين بتسديد المبالغ المستحقة بالدولار الطازج. وتقدّر المبالغ المستحقة من الشركات منذ الأول من تموز 2021 (أي عندما بدأت شركات الطيران تتقاضى قيمة الفحص من تذكرة السفر بالدولار الطازج) بـ 52 مليون دولار موزّعة كالآتي: 40 مليون دولار من MEAG من بينها 18 مليون دولار من شركة “الميدل ايست” وحدها، و22 مليون دولار من باقي الشركات، و12 مليون دولار من شركة LAT حصّلت منها الجامعة 420 ألف دولار فريش من 3 شركات فقط.
النيابة العامة تنتظر الخبير!
ملف فحوصات الـ pcr مفتوح لدى النيابة العامة المالية قبل أن يُجري ديوان المحاسبة تحقيقاته، فالرئيس السابق للجامعة، فؤاد أيوب قدّم، في 8 أيلول 2021، إخباراً لديها على الجامعة بهدف تبيان حقيقة الأمور وإثبات شفافيتها ونزاهتها والحفاظ على سمعة الجامعة ولإجراء التحقيق الشفاف والمستقل واللازم توخّياً للحقيقة ولوضع الأمور في نصابها القانوني السليم.
النيابة العامة المالية لم تضع الملف تحت المجهر ولم تعره الاهتمام الكافي، ولكن عندما أنهى ديوان المحاسبة تحقيقاته، أرسل، بحسب ما صرّح القاضي خميس في أكثر من لقاء صحافي، بأنه أرسل كلّ التحقيقات إلى النيابة العامة المالية كونه اعتبر أن الشركات الخاصة تحقق إثراء غير مشروع على حساب المال العام.
أما النائب العام المالي، القاضي علي إبراهيم، فأقرّ في اتصال مع “الأخبار” بأن الجامعة صاحبة حق، لكنه لا يزال ينتظر، كما قال، تقرير الخبير الذي عيّنه للتدقيق في الملف، ليبني على الشيء مقتضاه.
وزارة الأشغال “تتفرج”؟
المدير العام للطيران المدني، فادي الحسن، رفض الإدلاء بأي موقف مكتفياً بالقول: “موضوع الـ PCR في القضاء، لن أدخل في الموضوع”. لكن الجامعة لا تزال تنتظر من الحسن (الطرف الثالث في الاتفاقية) والذي تعهّد بموجب المادة السابعة من الاتفاقية، بتحصيل أموالها من الشركات الخاصة وتحويلها على حساباتها، ومن ثم أصدر تعميماً من دون أن يحاسب الشركات التي تخلّفت عن تنفيذه. التعميم حمل الرقم 6/2 بتاريخ 8 شباط 2022، ويطلب فيه الحسن من شركات الطيران العاملة في مطار بيروت “القيام بالسرعة الممكنة بتسديد مبالغ فحوص الـ PCR التي تم استيفاؤها من الركاب الذين قدموا إلى لبنان ابتداء من الأول من تموز 2021 ولغاية 9 كانون الثاني 2022 ضمناَ بالدولار الأميركي، بحيث يطلب منها القيام بتحويل تلك الأموال بالدولار الأميركي إلى شركات الخدمات الأرضية، والتي عليها فور تسلّمها، تحويلها بالدولار الأميركي إلى حساب الجامعة اللبنانية لدى مصرف لبنان”. وسألت إدارة الجامعة: “لماذا لم يُشرف الحسن على تطبيق تعميمه؟ ولماذا لم يتخذ أي إجراء بحق الشركات؟ هل أبلغ وزير الأشغال علي حمية بذلك؟ ما هي حدود صلاحيات الوزير وسلطته في التدخل لمساعدة الجامعة في تحصيل حقوقها؟”.
في المقابل، يؤكد الوزير حمية أنه يعمل على الملف لكنّه لا يقدّم إجابات تفصيلية عن كلّ ما ورد أعلاه. وفي حين أعدّ مستشاروه مطالعة قانونية بشأن صلاحيات وزارة الأشغال، إلا أنّه يتريّث في الإعلان عنها رافضاً العمل على إيقاع أحد.
جزء غير متنازع عليه
الأنظار ستبقى متجهة نحو النيابة العامة المالية لتحرير أموال الجامعة، وخصوصاً أن هناك جزءاً غير متنازع عليه، وتقرّ الشركات الخاصة بأنه موجود في صناديقها وأنه للوزارة والجامعة ويجب دفعه فوراً، على أن يبقى في عهدتها الجزء المختلف عليه، أي قبل الأول من تموز 2021 والذي قبضته الجامعة وفق سعر المنصة، والذي يجب إعادة النظر به استناداً إلى المادة السابعة نفسها. في هذا الوقت، يفترض أن موقف الجامعة في رفض الشيكات لا يزال صلباً، وهناك رهان على أن لا يضعف أمام الضغوط، لكنها تحتاج إلى أن يكون الجميع جنوداً في معركتها بحسب مصادرها.
يبقى أيضاً أن وزارة الأشغال العامة والنقل فرضت، أخيراً، على كلّ مسافر إلى لبنان ومن لبنان 25 دولاراً إضافيا على تذاكر السفر، فهل نحن أمام فتح المجال أمام الشركات الخاصة للاستيلاء على أموال عامة إضافية كما فعلت بالجامعة اللبنانية، وهل كانت هذه الشركات مؤتمنة على الحقوق والمال العام حتى نعطيها امتيازاً جديداً بأخذ أموال من المسافرين، مع احتمال أن تحتجزها مجدداً؟
أثار عضو لجنة التربية النائب إدغار طرابلسي الملف في اللجنة، بعدما تابعه مع الأطراف المعنية ووضعها في أجواء اتصالاته بها، ولا سيما اتصاله المباشر برئيس مجلس إدارة “الميديل إيست”، محمد الحوت، ووقوفه على أسباب تمنّعه عن دفع ما يتوجّب. وطالب طرابلسي بالاستماع إليه مع رئيس الجامعة ووزيرَي الصحة والأشغال. وقد جرى في الجلسة الأخيرة تشكيل لجنة منبثقة عن لجنة التربية. وبحسب ما قال طرابلسي لـ”الأخبار” ستستمع اللجنة في الجلسة التي تعقدها، غداً الأربعاء، إلى وزير الأشغال علي حمية ووزير الصحة فراس الأبيض ورئيس الجامعة بسام بدران، على أن تستدعي الحوت في جلسة لاحقة.
تستمع لجنة التربية النيابية غداً إلى وزيرَي الأشغال والصحة وإلى رئيس الجامعة
وشرح طرابلسي كيف أن السؤال الذي يوجهه النائب بموجب كتاب رسمي عبر رئاسة مجلس النواب إلى رئاسة الحكومة، فالوزير المعنيّ لا يصل إلى أيّ جواب، هذا ما حصل معه عندما سأل عن أموال الـPCR، وتزوير شهادات الطلاب العراقيين، وسرقة هبة الكمبيوترات إلى وزارة التربية.
ونقل طرابلسي عن الحوت قوله إنه لن يدفع الأموال، باعتبار أن الـ17 مليون دولار هو رقم نظري لكون الشركة أجرت تنزيلات على أسعار التذاكر في إطار الأسعار التنافسية، علماً أن الخمسين دولاراً تشكل زيادة رسم على “التيكيت” ولا تُقتطع منه.
يستغرب المحامي جاد طعمة، منسّق اللجنة القانونية في المرصد الشعبي لمحاربة الفساد (الذي تبنّى الدفاع عن حقوق الجامعة في هذا الملف)، انتظار النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم لرأي الخبير، موضحاً أن “تعيين الخبراء في المحاكم يكون عادة مقروناً بتحديد مهلة محدّدة لإنجاز المهمة، وبالتالي فإن إبقاء مهل التسامح مفتوحة في الوقت الذي تحجز فيه الشركات الأموال العامة، ولعلها تصرّفت بها أو وزّعتها، أمر لا يستقيم قانوناً”. ويرفض طعمة الأداء القضائي “اللطيف، الذي يتعاطى بهدوء مع شركات خاصة تستولي على أموال عمومية” معتبراً أن “الجامعة تحتاج إلى القضاء الذي يزمجر ويضرب بسيف العدالة”.
أما في ما يتعلّق بصلاحيات وزارة الأشغال، فيرى طعمة أنها “تستطيع أن تركن إلى قانون المحاسبة العمومية، لتصدر أوامر تحصيل بحق شركات الخدمات الأرضية في مطار بيروت وتطالبهم بدفع قيمة الفحوص المستوفاة بالدولار “الفريش”، أي أن تحرّر سندات تحصيل بقيمة 50 دولاراً للفحص وتحدّد أنه بحسب الاتفاق لا بد أن تُدفع القيمة بالدولار “الفريش”، تماماً كما قبضتها. وفي حال التخلّف عن الدفع يمكن أن تقوم الدولة اللبنانية، بمقاضاة الشركات الخاصة والحجز على أموالها أمام القضاء العدلي بهدف إلزامها بدفع المبالغ المستحقة والمحجوزة لديها”. ويضيف أنه “وفقاً لمبادئ القانون الإداري ونظرية العقد الإداري، فإن الشركات موجودة على أرض مطار بيروت الدولي بناءً على عقد إداري موقّع مع الدولة ممثّلة بوزارة الأشغال، وهذا العقد يتضمن بشكل حكمي، استناداً إلى طبيعته، بنوداً “خارقة” لمصلحة الإدارة، ومنها حق الإدارة بفسخ العقد ساعة تشاء، وفي حالة الجامعة، هناك واقع حال يبرّر حصول هذا الفسخ نتيجة حجز الأموال العمومية من دون وجه حق، ونتيجة مخالفة مضمون التعاميم الصادرة عن المديرية العامة للطيران المدني، بضرورة أن تدفع الحقوق لتمكين المديرية من تحويل الأموال أكان للجامعة اللبنانية أو لوزارة الصحة المتوجّبة. وبناءً عليه، بات ضرورياً فسخ عقود هاتين الشركتين استناداً إلى هذا الحق العائد للإدارة، ولن تترتب أي تعويضات لمصلحة الشركات الخاصة.
تعيين الخبراء في المحاكم يكون مقروناً بمهلة محدّدة وليس مفتوحاً
وأوضح طعمة أن وزارة الأشغال يمكن أن تتدخل وفقاً لهذين المبدأين، وبمعزل عما تقوم به النيابة العامة المالية التي تستطيع أن تستدعي رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لكلتا الشركتين وتطلب منهما دفع الأموال المحجوزة في صناديقهما، وإذا لم يدفعا، يمكن اتخاذ القرار بتوقيفهما، كون الشركات الخاصة قررت الاستيلاء على مال عام، محقّقة إثراء غير مشروع، وهذه الأفعال تؤلف جرائم وفقاً للقانون اللبناني.
طعمة رأى أنه بات واضحاً أن النيابة العامة المالية لا ترغب في اتخاذ إجراءات تجاه الشركات الخاصة العائدة لأشخاص لديهم نفوذ في الدولة، وكذلك بات واضحاً أن الإدارات العامة لا ترغب أيضاً في ممارسة صلاحياتها الإدارية تجاه هذه الشركات، لذلك تجد الجامعة اللبنانية نفسها تحت وابل من الضغط وفي مرمى النيران لدفعها نحو الخضوع لابتزاز الشركات الخاصة، وهذا ما لا يجب أن تقبل به أسر 80 ألف طالب يدرسون في الجامعة الذاهبة نحو الانهيار.
المصدر : الأخبار